ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (هل يجزئ المرور بعرفة بالطائرة عن الوقوف بها؟ فأحدُ الحجاج أُصيبَ يوم عرفة قبل وقوفه بها بوَعْكَةٍ صحيَّةٍ شديدةٍ ومفاجئةٍ، استلزَمَت نَقلَه إلى إحدى الوحدات الطبية المتخصصة، ونظرًا لازدحام الطرقات، تم نَقلُه بإحدى طائرات الإخلاء الطبي، فمَرَّت به فوق أرض عرفة في وقت الوقوف، وكان واعيًا، فهل مروره على عرفة بالطائرة يُجزِئه عن الوقوف بها؟
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، إن الوقوفَ بعرفة ركنُ الحج الذي لا يتم إلا به، والأصل فيه مباشرة الحاج لأرض عرفة أو ما اتَّصَل بها مِن مَرْكَبَةٍ ونحوها، فإنْ أَلْجَأَتْهُ الضرورة أو الحاجة التي تُنزل مَنزلتها إلى المرور بهواء عرفة بطائرة الإخلاء الطبي حال كونه واعيًا، وذلك لما أُصيبَ به مِن وَعْكَةٍ صحيَّة شديدة، أجزأه ذلك عن الوقوف بها.
وقد أجمع العُلَماءُ في كلِّ عصرٍ، وبكلِّ مصرٍ، على أنَّ الوقوف بعرفة ركنُ الحجِّ الأعظم، ولا ينوبُ عنه شيءٌ، وأنَّ مَن فاته الوقوفُ بعَرَفة في وقته الذي حدَّده الشرع فقد فاته الحجُّ
وقالت دار الإفتاء إن مِن الحِكَمِ التي تتجلى في الوقوف بعرفة: أنَّه تشبيهٌ وتذكيرٌ بالوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، واستحضارٌ لحال فَقْر العباد وتواضعهم، واحتياجهم إلى خالقهم جلَّ وعَلَا، كما أنَّ فيه إشعارًا وإعلانًا للمساواة بين جميع الحجيج؛ لقول الله عَزَّ وَجَلَّ في مُحْكَم التنزيل: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199]، بعد أن قال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 198]، وهو ما يفيد "التفاوت في الفضل بين مطلق الإفاضة، والإفاضة مع الناس وفي جَمعهم الزَّاخر المتدافع؛ ليَشْعُرَ كلُّ مسلم بأنه في منزلةٍ واحدةٍ مع غيره مِن المؤمنين، فيستوي السُّوقَةُ والأمير، والكبير والصغير، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، فتَصْقُل هذه الزحمةُ القدسيةُ قلوبَ المؤمنين، وتُشْعِرهُم بالمساواة أجمعين.
وأشارت إلى أن هذه الجملة عامةٌ في خطابها، تَشمل الحجاجَ أجمعين إلى يوم الدين، فهُم جميعًا مطالبون بأنْ يُفيضوا مع الناس، ومِن حيث يَسِيرُون، لا يَختص أحدٌ بطريقٍ، ولا يُمنع لأحدٍ طريقٌ، ولا يكون لفريقٍ مَسْلَكٌ وللناس مَسْلَكٌ، ولا يُمنع الناسُ حتى يَمُرَّ بعضُ الناس، بل الجميع في المرتفع والمهبط والسَّير والموقف سَوَاءٌ؛ لأنهم في ساحاتِ ربِّ العالمين، الذي يُعطي مَن يشاء ويَمنع مَن يشاء"؛ كما قال العلامة محمد أبو زهرة في "زهرة التفاسير" (2/ 624، ط. دار الفكر العربي).
وتابعت: وهو ما تأكَّد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ... الحديث. أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" فالكلُّ فقيرٌ، متضرعٌ، متجرِّدٌ مِن زُخرف الدنيا، مقبلٌ على طلب الرحمة والمغفرة من الله عَزَّ وجل، وجميعُهم محلُّ نظره سبحانه وتعالى، ووقوفهم بأرض عرفة سببٌ لمباهاة الله سبحانه وتعالى الملائكةَ بهم، وعِتْقِه لهم مِن النار؛ فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
وعن أبي هريرة رضي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي، جَاؤُونِي شُعْثًا غُبْرًا» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، وابن خزيمة وابن حبان في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وأوضحت أن وُقوف الحاجِّ بأيِّ جزءٍ مِن أجزاء عرفة يجزئه عن الفرض بإجماع الفقهاء، وأصله: ما ورد في السُّنَّة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» أخرجه الأئمة: ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأحمد في "المسند"، وابن ماجه والترمذي في "السنن".
كما اتفق جمهور الفقهاء مِن الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أنَّ المرور بعرفة كالوقوف بها في الإجزاء عن فرضِ الوقوف، على تفصيلٍ بينهم فيما يحصل به الاستقرار والاطمئنان، وسواءٌ عَلِمَ بأنه بعرفة أو لم يعرف، نَوَى أو لَم يَنْوِ، نائمًا أو يَقْظَان، خلافًا للمالكية، حيث اشترطوا عِلم الواقف بأنها عرفة، وأن ينوي الوقوف، ولَم يُفرِّق الحنفية بين كونه حال مروره بها مُفِيقًا أو مُغمًى عليه.
وأكدت دار الإفتاء أن مرورَ الحاج على عرفة بالطائرة صحيحٌ ومجزئٌ عن الوقوف بأرضها، لكن هذا الإجزاء مقيدٌ بكونه غير مُغمًى عليه أو في غيبوبة أو نحو ذلك -كما هو مذهب مَن قال به مِن الفقهاء-، ومقيدٌ كذلك بحال الضرورة أو الحاجة التي تُنزل منزلتها؛ وذلك لأنَّ ترك الوقوف على أرض عرفة يُفقد الحاجَّ تحصيل مَصالح الحج وحِكَمَه التي مِن شأنها شُرعت هذه الأعمال، ويُفرغها عن مضمونها.