لطالما تواردت إلى عقولنا أفكار نعدها مستحقة لبراءة اكتشاف أو اختراع، لنجد لاحقاً أن العثور عليها قد مضى عليه جزء طويل من الزمن، أو أنها إحدى المعلومات الفرعية المذكورة لدى أحد العلماء أو الفلاسفة كأداة استخدمت في تسطير إنجاز جديد على المستوى الإنساني والعالمي.
إن مثل هذه الاستنتاجات لا تقود بالضرورة لفساد الفكرة أو بساطتها، بل تضعنا في طريق جديد نؤمن به بالقوة العقلية وقدرة الإنسان على استثمارها في مستويات مختلفة وعلى أطوار متباينة المعطيات الزمانية والمكانية، وبالتالي فإن تشابه الأفكار أو اختلافها في كل من نجده مضماراً خصباً يوصل صوته الصداح، حيث ينطرق على مختلف النوافذ مهما تعددت ألوانها وأحجامها ليعلنا بدايات جديدة في مسارات وحقولا معرفية وفلسفية قابلة للقراءة والفهم، ثم إعادة القراءة وبناء فهم جديد، ثم العودة وقراءة أبعد من ذلك مرة تلو الأخرى من دون الوقوع في فخ التشويه أو الانحراف، سيما أن الإمعان والمدارسة والمطالعة المستمرة المبنية على فهم دقيق والقادرة على بناء منهجية متزنة لن تتوجه أبدا نحو الإفرازات المعرفية اللحظية أو الضبابية.
إن الطرح الفلسفي الديكارتي وإن كان ينطلق من القسمة العادلة العقلية بين بني البشر، إلا أنه لا ينفك يتلاقى مع العديد من الأفكار والاتجاهات القوية في سبيل تشكيل منظومة معرفية متكاملة الأركان، حيث إن التأثر بالفردانية التي أنتجتها الحداثة الأوروبية والتي وجدناها في فلسفة رينيه حين اعتمد على العقل دون سواه في الوصول إلى الحقيقة، يعود لي طلاقة مع فلسفة أخرى تهدف إلى تجاوز الإنسان مرحلة القيد الفكري والثقافي والارتقاء عن كافة العوامل التي قد تزج به إلى داخل قضبان القوالب الجامدة الموروثة أو بمعنى آخر الأصنام المعرفية، وفي هذا السياق نجد أن واضع منهج الاستقراء الأوروبي الفيلسوف فرانسيس بيكون الذي أشار لضرورة إسناد العلم إلى المعرفة وضع عدة أسس تسمح له بذلك تتلاقى بشكل ملحوظ مع الفكر الديكارتي المرتكز على العقل، حيث حث بيكون على التحرر من الأوهام القبلية من خلال تشغيل الحواس البشرية واستثمارها في سبيل الوصول إلى حقيقة، والتي تتحقق بإتباعها بخطوة غاية في الأهمية من خلال التحرر مما يسميه بـ "أوهام الكهف"، والتي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال بناء الوعي الكامل بأن هناك أوهاما محيطة بنا وقد تبدو راسخة بداخل أنفسنا كان للتكوين الاجتماعي والفكري الدور الأساسي فيها، حيث تعمل مجتمعات على إيجاد تراكمات من شأنها بناء شيء صلب وضخم يمنع العقل الإنساني من الوصول إلى الحقيقة ورؤيتها بشكلها الصحيح.
كما يضيف بيكون لما سبق خطوة تحث على التخلص أو التحرر من "أوهام السوق"، وفي هذا التوجيه تكمن أهمية قد نجد تداخلاتها وحضورها القوي في العديد من الجدليات وليس فقط في صدد التعرف على سبيل الوصول إلى الحقيقة أو المعرفة، حيث تدل أوهام السوق على ما ضمته اللغة من ألفاظ لطالما دار حولها الجدل وكانت منبعا خصبا لتقافز الشبهات من أحشائها، مما يؤدي لتضليل لغوي وخداع دلالي، ومن ثم تأتي مهمة التحرر من ما يسميه الفيلسوف بيكون بأوهام المسرح التي تمثلها كافة المعطيات التي ورثناها ثقافيا وفكريا في قوالب جاهزة موسومة بالتقديس وهي في الأساس ليست كذلك.
ونتاجاً لذلك نجد أن العقل الديكارتي -نسبةً لديكارت- تلاقى مع لب التفكير البيكوني -نسبةً لبيكون-، حين قرر الأول الاعتماد على العقل واتجه الثاني للتحرر من كافة الترسبات التي قد تؤثر على خطة سير وتحديد اتجاهات العقل، وإن هذا ليس بجديد على نطاق النقد الفلسفي والتعمق في تفاصيله المتعددة وبخاصة إننا حين نتحدث مثل هذا الكلام في سياق التعمق أكثر والتعرف أكثر، على كل ما يتعلق بالمعرفة نجد أننا وصلنا إلى صلب قضية أو موضوع آخر وهو الذي قد يبدو للوهلة الأولى موضوع مغاير أو منفصل أو حتى لا علاقة له بالسياق ولكن التفكير الأصح يقودنا للفهم الواعي بأن مجمل القضايا والأفكار ولا المواضيع تتشابك وتترابط مع بعضها البعض بطريقة أو بأخرى سواء كان ذلك الترابط مركزي أو يتفرع ليتلاقى في نطاق بعيد.