يستحب ترديد دعاء للميت عند الدفن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير، وهو في الجمع أرجى للقبول وأيقظُ للقلب وأجمعُ للهمة وأَدعى للتضرع والذلة بين يدي الله تعالى، خاصة إذا كانت هناك موعظة؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَدُ اللهِ مع الجَماعةِ» رواه الترمذي -وحسَّنه- والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[[system-code:ad:autoads]]دعاء للميت عند الدفن
ومن السنة أن يقف المشيعون للجنازة عند القبر ساعة بعد دفن الميت لترديد دعاء للميت عند الدفن ، لِما رواه أبو داود في "السنن" والحاكم في "المستدرك" وصححه، من حديث عثمان رضي الله عنه قال: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا فَرَغَ مِن دَفنِ المَيِّتِ وَقَفَ عليه فقالَ: «استَغفِرُوا لأَخِيكم وسَلُوا له التَّثبِيتَ؛ فإِنَّه الآنَ يُسأَلُ»، وروى الإمام مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قـال: «إذا دَفَنتُمُونِي فَشُنُّوا عليَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُم أَقِيمُوا حَولَ قَبرِي قَدرَ ما تُنحَرُ جَزُورٌ ويُقسَمُ لَحمُها حتى أَستَأنِسَ بكم وأَنظُرَ ماذا أُراجِعُ به رُسُلَ رَبِّي». وذلك إنما يكون بعد الدفن.
[[system-code:ad:autoads]]ويستحب أن يسبق الدعاءَ موعظةٌ موجزةٌ تذكّر بالموت والدار الآخرة؛ لِما في ذلك مِن ترقيق القلوب وتهيئتها للتضرع إلى الله تعالى، وجمع الهمة في الدعاء.
وقد خص المحدثون أبوابًا في مصنفاتهم لجمع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء للميت عند القبر.
فبوب الإمام أبو داود في "سننه" (باب الاستغفار عند القبر للميت) و(باب الدعاء للميت إذا وضع في قبره)، وبوب الإمام البيهقي في "الدعوات الكبير" (باب الاستغفار للميت عند القبر)، وبوب الإمام النووي في "خلاصة الأحكام" (باب استحباب المكث عند القبر بعد دفنه ساعة، والدعاء له بالتثبيت وغيره، وقراءة القرآن).
فعن علي كرم الله وجهه قال: كُنّا في جَنازةٍ في بَقِيعِ الغَرقَدِ، فأَتانا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فقَعَدَ وقَعَدنا حَولَه، ومَعَه مِخصَرةٌ، فـنَكَّسَ، فجَعَلَ يَنكُتُ بمِخصَرَتِه، ثُم قالَ: «ما مِنكم مِن أَحَدٍ- ما مِن نَفسٍ مَنفُوسةٍ، إلّا كُتِبَ مَكانُها مِنَ الجَنّةِ والنّارِ، وإلّا قد كُتِبَ شَقِيّةً أو سَعِيدةً»، فقالَ رَجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أفَلا نَتَّكِلُ على كِتابِنا؟ فقال: اعمَلُوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له» متفق عليه.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ بصر بجماعة، فقال: «عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؟» قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه، قال: فاستقبلتُه من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى مِن دموعه، ثم أقبل علينا قال: «أَيْ إِخْوَانِي! لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا» رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والإمام أحمد في "المسند" واللفظ له، وابن ماجه في "السنن"، والبخاري في "التاريخ الكبير"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وحسَّنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 120، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام النووي في "خلاصة الأحكام" (2/ 894، ط. مؤسسة الرسالة).
الدعاء للميت جهرا
أما عن كيفية الدعاء للميت وهل يكون سرًّا أو جهرًا: فالمستحب أن يكون جهرًا، والأمر في ذلك واسع، والتنازع من أجل ذلك لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنكار الدعاء على القبر جهرًا هو من البدع المذمومة؛ إذ قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء على القبر جهرًا، ومن البدعة تضييق ما وسَّع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا شَرَع اللهُ سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق، وكان يحتمل في فعله وكيفية إيقاعه أكثرَ مِن وجه فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل، فكيف والجهر بالدعاء ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة الأكرمين رضي الله عنهم، والسلف الصالحين رحمهم الله تعالى.
ولا يخفى أن الدعاء جهرًا في جماعة هو أرجى للقبول وأيقظُ للقلب وأجمعُ للهمة وأَدعى للتضرع والذلة بين يدي الله تعالى، خاصة إذا كانت هناك موعظة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَدُ اللهِ مع الجَماعةِ» رواه الترمذي وحسَّنه والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهمافَمِمَّا صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء جهرًا عند المقابر: ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حائطٍ لبني النجارِ على بغلةٍ له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبُر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟» فقال رجل: أنا، قال: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟» قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال".
وروى ابن أبي عاصم في "السنة" و"الآحاد والمثاني"، والطبراني في "المعجم الكبير" و"الأوسط" و"الدعاء"، وابن بطة في "الإبانة"، وغيرهم، -وأصله عند أبي داود في "السنن"- عن الحُصَيْنِ بن وَحْوَح رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء حتى وقف على قبر طلحة بن البراء رضي الله عنه، فَصَفَّ وَصَفَّ النَّاسَ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ»، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 366، ط. مكتبة القدسي): [هو حسن إن شاء الله] اهـ.
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة والسلف الصالحون رضي الله عنهم فيما نُقِلَ عنهم من آثار في الدعاء عند المقابر جهرًا، ولولا أنها سُمِعَت منهم جهرًا لَمَا نُقِلَتْ.