في صيف عام 1988، أثارت زيارة الفنان عادل إمام إلى أسيوط أهمية كبيرة في وسائل الإعلام الفنية المصرية.
أقدم عادل إمام على مغامرة خطيرة حينما دخل عرين الجماعات الإرهابية ليقدم عرض مسرحي لمسرحيته "الواد سيد الشغال"، احتضنهما تضامنًا مع فرقة هاويين في الفن، تأسست بواسطة شباب في قرية "كودية الإسلام".
اعتبرت هذه الجماعات المتطرفة أعضاء الفرقة من الكفار والفاسقين والمارقين، وحاولوا منعهم بالقوة من تقديم عرضهم المسرحي وترويعهم باستخدام العنف والتهديدات.
نتج عن ذلك سقوط شهيدين من رموز الفن وإصابة آخرين. في قلب أسيوط، قدم عادل إمام عرض مسرحيته وسط تضامن ودعم وحماس من قِبَل المثقفين والمبدعين، الذين رأوا في هذا الفعل انتصارًا للفن على الإرهاب ورمزًا للحياة في وجه الظلام.
ما قاله عادل إمام عن الذهاب لأسيوط
قال عادل إمام وهو يصف ماحدث في ذلك اليوم «صيف ١٩٨٨.. ذلك الوقت كانت هناك أزمة القانون ١٠٣ الخاص باتحاد الفنانين، وفوجئنا بأن القانون الجديد يسمح بالتجديد للنقيب أكثر من فترتين، ولم يكن من الممكن بالنسبة لنا نحن الفنانين أن نقف فى صف الديمقراطية وننحاز لها وندعو إليها فى أفلامنا وأعمالنا الفنية ثم نأتى إلى نقابتنا ونعمل عكسها، لذلك وقفت ضد هؤلاء الذين أخرجوا لنا هذا القانون.. وخلال تلك الأزمة قرأت خبرًا فى جريدة (الوفد) يقول إن بعض الممثلين الهواة من قرية (كودية الإسلام) بمحافظة أسيوط ذهبوا لتمثيل مسرحية تحض الناس على التمسك بالأرض وعدم الهجرة، فكانت النتيجة أن قتل أحدهم وتعرض الباقون للضرب بالجنازير والمطاوى، ومنعهم المتطرفون من ممارسة التمثيل بالقوة.. فشعرت بضيق شديد».
«وفى اليوم التالى كتب الاستاذ أحمد بهاء الدين عموده فى الأهرام يطالب بحماية هؤلاء الفنانين الهواة، ولو اقتضى الأمر نزول الجيش بدباباته.. لحمايتهم، شعرت بالحزن والغضب ربما لأننى تبينت أن هؤلاء الفنانين الهواة على مسافة بعيدة جدًا من العاصمة ونجومها، ونحن هنا نتعارك على القانون ١٠٣ ومشغولون به، بينما هم يتحملون القتل والضرب بالجنازير دفاعًا عن الفن، لهذا قررت أننى يجب أن أذهب إلى أسيوط قبل أى شىء آخر».
«قررت أن أذهب للوقوف إلى جوار هؤلاء الفنانين وللدفاع أيضًا عن نفسى وأسرتى ووطنى.. ذهبت لأدافع عن الفن الذى أحبه، لأدافع عن صورتى أمام أولادى لكى يعرفوا جيدًا أن مهنتى ليست حرامًا وأن الطعام الذى يأكلونه والتعليم الذى يتعلمونه وحياتهم كلها ليست حرامًا فى حرام.. ولكن يدركون أننى أكسب أموالى من عرق جبينى ومن خلال أشرف مهنة وهى الفن.. قررت الذهاب لإحساسى بوطنى، لأننى عندما تأملت ما يمكن أن يحدث فى المستقبل إذا استمر هذا الإرهاب الأسود انتابنى الفزع».
«شعرت عندئذ بأن كل كيانى فى حياة استنفار وتأهب، وقلت فى حديث صحفى مع السيدة عائشة صالح فى مجلة (المصور) إننى أريد الذهاب إلى أسيوط لعرض مسرحية (الواد سيد الشغال)، وأريد أن يقتنع الناس بأن الفن ليس حرامًا، وأن مصر بلد يعرف الفن والفنانين منذ أيام المصريين القدماء.. والتقط الخيط الأستاذ مكرم محمد أحمد وسألنى: هل تريد يا عادل أن تذهب إلى أسيوط حقًا، ومَنْ الذى تقترح أن يذهب معك؟».
قلت له: «أنا وفرقتى جاهزين ويا ريت أتسلم دعوة من هيئة ثقافية كبيرة، واقترحت أن تكون جامعة أسيوط حتى تكون للزيارة واجهة ثقافية، لكن رئيس الجامعة وقتها تردد وتهرب وتمت اتصالات بالمحافظة التى وافقت على استضافتى، وعندما عرفت بدعوة المحافظة وافقت على الفور إلى درجة أننى قلت: أنا موافق على الذهاب إلى هناك حتى وإن كان صاحب الدعوة بائع خضار».
«وكان المحافظ وقتها، هو عبدالحليم موسى، وكذلك اتصل بى وزير الداخلية آنذاك وسألنى: يا عادل أنت عندك استعداد فعلًا تروح أسيوط؟.. قلت: طبعًا، وكانت العناصر المتطرفة تحتل شوارع وأحياء وفكر المحافظة.
وأبلغت فرقتى بأننى سأتوجه إلى أسيوط، وأعطيت لكل واحد منهم الحرية الكاملة للاعتذار، لكن جميع أفراد الفرقة أعلنوا أنهم سيسافرون معى وأخذت فرقتى وسافرنا».
وفى أسيوط طلبت أن يحضر الحفلات الجميع، حتى المتطرفون وتحولت أيام إقامة الحفلات فى المدينة إلى أعياد وسعدت بالتجربة إلى أقصى مدى، وبأننى أسهمت مع فرقتى فى إعادة بناء المسرح، ورد الاعتبار لفرقة (كودية الإسلام).. هناك شعرت بأن الناس فى أسيوط يقولون لى: كنت فين.. ليه ما جتش عندنا من زمان؟، وبدأت محلات العصير تستقبل زبائنها، أعيد فتح محلات بيع الكاسيتات وعادت حركة البيع فى الشارع، كأن هناك عرسًا فى أسيوط فى حقيقة الأمر، وكنت سعيدًا بهذه المظاهرة الفنية.. لقد ذهبت إلى أسيوط بمبادرة شخصية وكمواطن مصرى».. هذا ما قاله عادل إمام عن رحلته إلى معقل الإرهابيين.
ولم تكن المغامرة سهلة ميسورة عادية.. بل كانت محفوفة بمشاعر خوف إنسانى، ورهبة من مواجهة شباب متطرف مغسول الدماغ، لا يتورع عن استخدام الرصاص والسكين يغرسها فى صدور الأبرياء باسم الله.. ومحفوفة كذلك بالكارهين، الذين استكثروا على عادل إمام أن ينال كل هذا التقدير وحده، فأطلقوا فى وجهه اتهامات ساذجة من قبيل أنه ما كان يصح فى هذا الموقف أن تذهب إلى أسيوط بمسرحية كوميدية.. وكأن الكوميديا عيبًا.. وكأنه كان عليه أن يجهز مسرحية جديدة من أجل هذه المناسبة.. فى يومين.
ومحفوفة بالموتورين من أنصار التطرف الدينى، الذين أحسوا بالخطر على مصالحهم ونفوذهم من تلك الرحلة وصاحبها، وحين كشفت عن تجاوب شعبى هائل ضد التطرف ومن يسانده.. احتفظ فى أرشيفى بعدد من مجلة «الاعتصام» ذات التوجه الإسلامى متزامنًا مع ذلك الحدث، بقلم الأستاذ محمد عبدالله السمان، يحمل فيه بعنف مريب على رحلة عادل إمام إلى أسيوط، مستنكرًا عليه نجاحها، مشككًا فى نواياها.. و.. «لو كان قد قدر لعادل إمام أن يكون فاتح عكا بالأمس، أو يحرر الأرض السليبة اليوم لما حظى بعُشر معشار المقالات التى تمجد بطولته لأنه ذهب إلى أسيوط متحديًا الإرهاب هناك.. حركة مسرحية مكشوفة من أجهزة الأمن فهى المؤلفة وكاتبة السيناريو والمخرجة وواضعة الموسيقى التصويرية».
لا يريد الرجل أن يصدق أن هناك إنسانًا مصريًا شريفًا، يدفعه انتماؤه الوطنى إلى هذا العمل النبيل، وأن يحمل روحه على كفيه ويذهب بقدميه إلى معقل الإرهاب، ثم يواصل الحملة ضده فى فيلم «الإرهابى» الذى كان أول فيلم فى تاريخ السينما المصرية يجرى تصويره تحت حراسة الشرطة.. ما الذى يدفع عادل إمام إلى أن يرهن حياته ومصير أسرته بموقف ليس مضطرًا إليه ولا مجبرًا عليه، فى وقت كان صوت التطرف هو الأعلى، ورصاصاته هى الأقوى؟