لكل إنسان على وجه الأرض قصة هروب، حتى لو لم يتعرف عليها بعد، فهناك من يهرب من ماضيه، وهناك من يحاول التملص من حاضره، بل أن هنالك أيضا من يحاول أن ينجو من مستقبله ولذلك معان وتحليلات كثيرة لسنا بصددها في المرتبة الأولى.
ولكن ما يلفتنا في هذا السياق هو الهروب الفلسفي والفكري والثقافي لدى المفكرين والباحثين شكل عام، وفي هذا المقام الذي يصب اهتمامه على القراءة المتأنية للتفكير الفلسفي وبخاصة المتصل بالمعرفة، فإننا نجد ملامح قصة الهروب لدى الفيلسوف الفرنسي البارز رينيه ديكارت، واضحة ومنطقية، حيث جاءت الفلسفة الديكارتية اللاحقة لمنظومة الفلسفة الأرسطية و الأفلاطونية المنسجمة كخطوة نوعية ومختلفة عن فلسفة العصور الوسطى التي ربما وضع فيها كل من أرسطو وأفلاطون أقصى تركيز لديهما مما جعلها تصل لمرحلة يمكن نعتها بالنضج.
وعليه، فإن فلسفة العصور الوسطى (الفلسفة السكولاتية المدرسية) المشبعة بالانطلاقات الكنسية التي التزمت فيها قسراً، شكلت أحد الدوافع التي جعلت من ديكارت يبني قصت هروبه من داخل تلك الدائرة غير المتناهية، ليرفض ما كانت عليه تلك الفلسفة بقوة وبخاصة بعدها ما حصل مع قليله حيث شكلت أولى ملامح هروب ديكارت من الواقع الذي كان به رفضه المطلق للخضوع والتبعية الكنسية والتي وجد فيها تحديداً وتخنيقاً لملكة الإبداع الموجودة لدى الإنسان فاعتبرها القلب هل الموروث الخاطئ الذي لا بد من كسره حيث لا يمكن، استمرار خط الحياة تحت ضغط مكبح الإمكانيات والابتكارات الإنسانية، فاتجه بخطوة ذكية لنقد الفلسفة القديمة واعتبارها سببا في استمرار ملامح الهيمنة وتقوية جذورها والإشارة إلى تداعياتها على الحرية الفردية.
ومن الجدير بالذكر أن الإنسان لا يمكنه الإعلان عن هروبه دائماً، بل أن ذلك الهروب ربما يبدو في الكثير من الأحيان ضمنيا هادئا في شكله الخارجي ولكنه مبني على العديد من التطورات والتغيرات في حياة الإنسان، حيث نجد أن فيلسوفنا محل الدراسة سطر العديد من المؤلفات والمقالات التي عبرت بشكل واضح عن حالة الثوران التي كان يعيشها بداخله، ومن ذلك كتابه قواعد لهداية العقل الذي سطر فيه منهجا جديدا مختصا بتمحيص كل من الدقة واليقين التي يمكن أن نجدها في العلوم الرياضية، إضافة إلى مؤلفه كتاب النور الذي كانت إدانة الفيلسوف جاليليو جاليللي -فيلسوف إيطالي لطالما تسببت له اكتشافاته وأفكاره بمحاربة الكنيسة له ومحاكماته- دافعا لكتابته، بالإضافة إلى عدة مقالات مختصة بالفيزيقيا الرياضية، والتي كانت مجتمعة سببا في كتابته مقال في المنهج كخطوة لاحقة، ومن مقالاته تأملات في الفلسفة الأولى ومبادئ الفلسفة وغيرها من المؤلفات المختصة في علم النفس مثل كتاب في النفس والتي شكلت كلها مجتمعة انعكاسا واضحا عن الفكر الديكارتي المترابط والمتعمق والدقيق.
وفي هذا السياق، فإننا مدعوون لبرحة مع السلام الذاتي، نتمعن فيها "قصة هروبنا"، حتى نستطيع تحديد بوصلتنا القادمة، وليكون ذلك الهروب مختوماً بقصة نجاة مكللة بالإبداع والتي تعود بالنفع على مجتمعاتنا وأوطاننا، فكل منا فيلسوف، في مضمار اختصاصه!