انضم الآلاف من الماليين الذين يحملون دلاء وأباريق من الطين إلى عملية إعادة التجصيص السنوية لأكبر مبنى من الطوب اللبن في العالم في نهاية هذا الأسبوع، وهي طقوس رئيسية تحافظ على سلامة مسجد جينيه الكبير في وسط البلاد، والمبنى مدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي المعرض للخطر منذ عام 2016، وقد تعرض المسجد والبلدة المحيطة به، وهي مركز تاريخي للتعليم الإسلامي، للتهديد بسبب الصراع بين المتمردين الإسلاميين والقوات الحكومية وجماعات أخرى.
[[system-code:ad:autoads]]وبحسب تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس الامريكية، فيحتاج مسجد جينيه إلى طبقة جديدة من الطين كل عام قبل بدء موسم الأمطار في يونيو، وإلا فسيصبح المبنى في حالة سيئة، وكان حدث إعادة التجصيص يجذب عشرات الآلاف من السياح كل عام، كما هو الحال مع بقية مالي، اختفت صناعة السياحة في جينيه تمامًا.
[[system-code:ad:autoads]]قصة المسجد .. أكبر صرح بالطوب اللبن
والمسجد الكبير هو أكبر صرح من الطوب اللبِن في العالم، ويعتبره الخبراء أعظم مثال للمعمار في الرقعة الأفريقية المعروفة باسم بلاد السودان والساحل وإن كان الأثر الإسلامي واضحا فيه، كما يعتبر، بلا منازع، من أهم وأبرز معالم القارة السمراء ككل، ولهذا صنفته هيئة «اليونيسكو»، مع المدينة القديمة في جينيه نفسها، «تراثا عالميا يتوجب على الأسرة الدولية حمايته»، ومدينة جينية تعد من أقدم المدن المعروفة في جنوب الصحراء الكبرى، ففي القرن السادس عشر تحولت إلى مركز للعلوم الإسلامية.
وقد شيد هذا المسجد، الذي يقع على ضفة نهر الباني في مدينة جينيه، أول ما شيد في القرن الثالث عشر، لكن الصرح الذي يرى اليوم يعود تاريخه إلى عام 1907، أما المسجد الأصلي فقد بناه الملك كوي كونبورو عام 1240 في موقع قصر عامر قبل أن تصبح جينيه عاصمة لامبراطورية مالي، وعندما تولى الغازي المسلم أمادو لوبو مقاليد الأمور في المنطقة عام 1834 أمر بهدمه باعتباره «بهرجا وترفا غير لائق».
التجصيص رمزا للسلام
"إن تجصيص المسجد هو رمز للسلام. الفقراء والأغنياء، الجميع هنا من أجل هذا النشاط"، هكذا يقول أمادو أمباتي سيسي، أحد سكان جيني الذي شارك في الحدث، لوكالة أسوشيتد برس، وتابع: "سنواصل هذا التقليد من جيل إلى جيل، وسننقلها إلى أطفالنا وهم بدورهم سيفعلون الشيء نفسه"، فهو تقليديا، تقوم النساء والفتيات بجلب المياه من النهر القريب لخلطها مع الطين لصنع الطين، ويتسلق الرجال والفتيان المسجد ويضعون الطبقة الجديدة.
وقال موسى موريبا دياكيتي، رئيس البعثة الثقافية لجيني، إن انعدام الأمن يهدد الحدث السنوي، وأضاف: "يتحدث الكثير من الناس عن انعدام الأمن، ونسمع أننا لا نستطيع القدوم إلى جيني بسبب انعدام الأمن"، وعلى الرغم من اختفاء صناعة السياحة في جينيه، فإن صيانة المسجد أمر يجب أن يستمر "بأي ثمن"، على حد قول دياكيتي، للحفاظ على التراث الثقافي للبلاد.
تأثير إسلامي قديم
وقد أصبحت بلدة جينيه الواقعة في واد بين نهري النيجر وباني مأهولة بالسكان منذ 250 سنة قبل الميلاد، الأمر الذي يجعلها واحدة من أقدم المدن في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وازدهرت البلدة بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر كملتقى رئيسي لنقل البضائع كالذهب والملح، كما وفدت إليها القوافل التجارية ورجال الدين والكتبة، الذين دعوا إلى الإسلام في المنطقة، وسرعان أن أصبحت جينيه مركزا لتعليم الإسلام، وشُيد البناء الحالي للمسجد الكبير عام 1907 على موقع المسجد الأصلي الذي تعرض للإهمال خلال القرن التاسع عشر.
ويضم "الجامع الكبير" ثلاث مآذن مميزة، وتبرز خارج جدران المبنى مئات القوائم الخشبية من النخيل والتي تعرف باسم "تورون" أي الحبال، ويحتفظ المسجد ببرودته خلال الأيام شديدة الحرارة. ويدعم السقف والجدران سقيفة مكونة من 90 قائما خشبيا، وهو ما يوفر عازلا عن حرارة الشمس، بينما توجد ثقوب في السقف تسمح بمرور الهواء النظيف في موسم الصيف والجفاف، ويمكن سدها بأغطية طينية أثناء موسم المطر، وتتسع قاعة الصلاة في المسجد لثلاثة آلاف شخص.
إعادة بناء سنوية احتفالية
ويُعاد بناء جدران "الجامع الكبير" في جينيه في شهر أبريل من كل عام في يوم ملحمي يطلق عليه بالفرنسية "لا كريبيساج" (أي إعادة كساء المبنى بالطين)، ويتطلب البناء صيانة سنوية كما هو متبع مع بيوت البلدة التقليدية المبنية بالطين اللبن، وذلك قبل أن يحل موسم المطر القصير شديد الغزارة، والذي يأتي غالبا في يوليو وأغسطس من كل عام، إذ يهطل في هذه الفترة معظم المعدل السنوي للأمطار البالغ ألف ملليمتر، وتضمن هذه المبادرة الجماعية الهائلة صمود المسجد أمام الانهيار خلال موسم المطر، على الرغم من اختلاف شكله بعض الشيء في كل عام.
وبمجرد بدء عملية "إعادة كساء المبنى بالطين" تتنافس فرق من كل أحياء جينيه لإعادة كساء المسجد بعناية ودقة، حيث يتسلق الشباب واجهة المسجد، تحت إشراف مجموعة من 80 بناءً، حيث تحظى مهنة البناء باحترام كبير في جينيه، حاملين السلال المصنوعة من الخيزران مملوءة بالطين المبلل ويكسون الجدران بطبقات سميكة من الطين، وتتنافس الفرق فيما بينها لإكمال القسم الخاص بكل منها أولا، والفوز في هذه المنافسة مصدر فخر حقيقي للمتنافسين الذين يتسلم الفائز منهم أيضا جائزة مالية بالعملة المحلية (تعادل نحو 68.5 جنيه إسترليني) وهو مبلغ كبير في بلدة يبلغ دخل الفرد فيها أقل من جنيه استرليني واحد في اليوم.