اجابت دار الافتاء المصرية على سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة: "أيهما أفضل: القيام بعمرة التطوع أو الإنفاق على الفقراء والمحتاجين؟".
وردت دار الافتاء موضحة: ان الإنفاق على الفقراء والمحتاجين أفضل من عمرة التطوع، وقواعد الشريعة وحكمة الله تعالى واضحة في توجيه العباد إلى فعل الخير على أساس تقديم الأهم والأصلح، وذلك يقتضي بأن يُقَدِّمَ السائلُ مصالحَ وحاجاتِ إخوانه من الفقراء والمحتاجين الذين هم في مسيس الحاجة إلى ما يؤويهم، وما يستعينون به على قضاء حوائجهم الضرورية.
[[system-code:ad:autoads]]فضل العمرة وبيان حكمها وحكم تكرارها
العمرةُ مِن أفضل العباداتِ التي يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى؛ لِمَا فيها من تكفيرِ الذنوب وإجابة الدعوات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَينهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّة» متفق عليه.
[[system-code:ad:autoads]]قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (9/ 117- 118، ط. إحياء التراث العربي): [هذا ظاهرٌ في فضيلة العمرة، وأنها مكفرةٌ للخطايا الواقعة بين العمرتين] اهـ.
وتَكرار العمرة والموالاة بينها أمرٌ جائزٌ شرعًا، وهو مَذهَبُ جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة. يُنظر: "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين (2/ 585، ط. دار الفكر)، و"المجموع" للإمام النووي (7/ 147-150، ط. دار الفكر)، و"المغني" للإمام ابن قُدَامة المقدسي (3/ 220-221، ط. مكتبة القاهرة)، وذلك خلافًا للمالكية الذين نصوا على كراهة ذلك في المشهور عندهم، والجواز في غير المشهور. يُنظر: "مواهب الجليل" للعلامة الحَطَّاب (2/ 467-468، ط. دار الفكر).
والعمرة سُنَّةٌ مؤكدةٌ في العمرِ مرة واحدة، وما زاد عن ذلك فهو مندوب، وهو ما ذهب إليه الحنفية -في الصحيح من مذهبهم- والمالكية، والشافعية في قولٍ، والحنابلة في روايةٍ، وهو المختار للفتوى. يُنظر: "البناية" للإمام بدر الدين العَيْني الحنفي (4/ 461، ط. دار الكتب العلمية).
وذهب الشافعية في الأظهر، والحنابلة في الصحيح من المذهب إلى أنها واجبة؛ كالحج. يُنظر: "روضة الطالبين" للإمام النووي الشافعي (3/ 17، ط. المكتب الإسلامي)، و"كشاف القناع" للعلامة البُهُوتيِّ الحنبلي (2/ 437-438، ط. دار الكتب العلمية).
الأفضلية بين عمرة التطوع والإنفاق على الفقراء والمحتاجين
أحب النفقة إلى الله تعالى ما كانت أنفعَ للناس وأجدى في إصلاح أحوالهم؛ فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الأعمال إلى الله تعالى، فقال: «مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا؛ إِمَّا أَنْ أَطْعَمَهُ مِنْ جُوعٍ، وَإِمَّا قَضَى عَنْهُ دَيْنًا، وَإِمَّا يُنَفِّسُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرَبَ الْآخِرَةِ، وَمَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا أَوْ تَجَاوَزَ عَنْ مُعْسِرٍ؛ ظَلَّهُ اللهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ لِتَثَبُّتِ حَاجَتِهِ ثَبَّتَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ، وَلَأَنْ يَمْشِيَ أَحَدُكُمْ مَعَ أَخِيهِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِي هَذَا شَهْرَيْنِ وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ» أخرجه الحاكم في "المستدرك".
وعن السيدة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ في المالِ لَحَقًّا سِوى الزَّكاةِ»، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]. أخرجه الترمذي في "السنن".
وقال الإمام أبو بكر الجَصَّاص في "أحكام القرآن" (4/ 301، ط. دار إحياء التراث العربي): [المفروض إخراجه هو الزكاة، إلَّا أن تحدث أمورٌ توجب المواساةَ والإعطاءَ؛ نحو: الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميتٌ ليس له مَن يُكفِّنه أو يُواريه] اهـ.
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 88، ط. دار الكتب العلمية): [وليس في المال حقٌّ سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجةٌ؛ فإنه يجب صرفُ المال إليها باتفاق من العلماء، وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم] اهـ.
ومن المقرر فقهًا أن العبادة المُتَعَدِّيَةَ أفضل من القَاصِرَةِ غالبًا؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 144، ط. دار الكتب العلمية)، وهذا ما فهمه جماعةٌ من السلف الصالح حين نصُّوا على أن الصدقة أفضل من التطوع بالحج، ومثله العمرة؛ لأن الصدقة عبادةٌ متعدية، أما الحج والعمرة تطوعًا؛ فعبادتان قاصرتان على صاحبهما، فروى أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" عن سيدنا الحسين بن علي عليهما السلام قال: "لَأَنْ أَقُوتَ أَهْلَ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ صَاعًا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ كُلَّ يَوْمٍ صَاعَيْنِ شَهْرًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ فِي إِثْرِ حَجَّةٍ".
وأخرج الإمام أحمد في كتاب "الزهد" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: "يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَحُجُّ أَحُجُّ، قَدْ حَجَجْتَ، صِلْ رَحِمًا، نَفِّسْ عَنْ مَغْمُومٍ، أَحْسِنْ إِلَى جَارٍ".
وأخرج ابن أبي شَيْبَة في "المصنف" عن الحَكَم بن عطية، قال: "سألت الحجَّاج عن رجل قضى مناسك الحج، أيحج أو يعتق؟ قال: لا، بل يعتق، وأخرج أيضًا عن الشعبي قال: جاءه بعض جيرانه فقال: إني قد تهيأتُ للخروج، ولي جيران محتاجون متعففون، فما ترى إلى جعل كراي وجهازي فيهم، أو أمضي لوجهي للحج؟ فقال: والله إن الصدقة يعظم أجرها، وما تعدل عندي موقفًا من المواقف، أو شيئًا من الأشياء"، وأخرج أيضًا عن الضحَّاك قال: "مَا عَلَى النَّاسِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ".
نصوص فقهاء المذاهب الأربعة في ذلك
هذا أيضًا ما تواردت عليه عبارات الفقهاء في المذاهب الأربعة، فإنهم وإن تكلموا عن التطوع بالحج؛ إلا أنه يشمل التطوع بالعمرة أيضًا بطريق الأولى.
فعند الحنفية أن تقديم الصدقة أيام الغلاء وشدة احتياج الفقراء؛ أفضل من التطوع بالحج، قال ابن نُجَيْم في "البحر الرائق" (2/ 334، ط. دار الكتاب الإسلامي): [قلت: قد يقال: إن صدقة التطوع في زماننا أفضل... ولا سيما في أيام الغلاء وضيق الأوقات، وبتعدي النفع تتضاعف الحسنات] اهـ.
وقال العلَّامة برهان الدين ابن مازَه الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 495، ط. دار الكتب العلمية): [إذا حجَّ الرجلُ مرةً ثم أراد أن يحج مرة؛ فالحج مرة أخرى أفضل له أم الصدقة؟ فالمختار: أن الصدقة أفضل له؛ لأن نفع الصدقة يعود إلى الفقير، ونفع الحج يقتصر عليه] اهـ.
وعند المالكية: تقديم الصدقة على حج التطوع أفضل في سَنة المجاعة؛ بناءً على أن التوَقِّي من إثم تضييع الفقراء مقدمٌ على تحصيل أجرِ حج النافلة، كما نصَّ عليه الإمام مالك.
قال الإمام ابن رشد الجد في "البيان والتحصيل" (13/ 434، ط. دار الغرب الإسلامي): [وإنما قال: إن الحج أحب إليه من الصدقة، إلا أن تكون سَنة مجاعة؛ لأنه إذا كانت سَنة مجاعة، كانت عليه المواساة، فالصدقة واجبة، فإذا لم يُواسِ الرجلُ في سَنة المجاعة مِن ماله بالقدر الذي يجب عليه المواساةُ في الجملة؛ فقد أثم، وقدرُ ذلك لا يعلمه حقيقةً؛ فالتوَقِّي من الإثم بالإكثار من الصدقة؛ أولى من التطوع بالحج الذي لا يأثم بتركه] اهـ.
بل فرَّع المالكية على القول بوجوب الحج على التراخي؛ تقديم الصدقة على حج الفريضة، ونصوا على أنه إذا تعينت المواساةُ على مريد حج الفريضة: فإنه يجب عليه تقديمها على الحج؛ للاتفاق على وجوب المواساة على الفور، بخلاف الحج الذي اختلف في كونه واجبًا على الفور أو التراخي.
قال العلَّامة الحطَّاب في "مواهب الجليل" (2/ 537، ط. دار الفكر): [ويفهم منه أنها -أي الصدقة- لا تُقدَّم على الحج الفرض، وهو كذلك على القول بالفور، وعلى القول بالتراخي فتُقدَّم عليه، وهذا ما لم تتعين المواساة؛ بأن يجد محتاجًا يجب عليه مواساته بالقدر الذي يصرفه في حجه؛ فيُقدَّم ذلك على الحج؛ لوجوبه فورًا من غير خلاف، والحج مختلف فيه] اهـ.
وعند الشافعية: أنَّ الأصح تقديم سائر الوصايا -ومنها الوصية بالصدقة على الفقراء- على الوصية بحج التطوع؛ نظرًا إلى أن الحج من حقوق الله تعالى، والصدقة من حقوق الآدميين، وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة، حتى جزموا بأنه لا وجه لتقديم الحج إلا إذا نص الموصي على تقديمه.
قال الإمام الرافعي في "الشرح الكبير" (7/ 121، ط. دار الكتب العلمية): [وهل يقدم حجُّ التطوُّع في الثلث على سائر الوصايا؟ عن القفَّال: أنه على القولين في تقديم العتق على سائر الوصايا؛ لأن الحج قربةٌ كالعتق، قال الشيخ أبو علي رحمه الله: ولم أرَ هذا لأحد من أصحابنا، وجعلوا الوصية به مع سائر الوصايا على الخلاف فيما إذا اجتمع حق الله تعالى وحقوق الآدميين] اهـ، ويُنظر معه: "نهاية المطلب" لإمام الحرمين الجويني الشافعي (11/ 187، ط. دار المنهاج)، و"الوسيط" للإمام أبي حامد الغزالي (4/ 462، ط. دار السلام).
وذكر الإمام عز الدين ابن جماعة الشافعي فَضْلَ مَن فَضَّل إعطاء أهل الفاقة على الحج، حيث عقد بابًا سمَّاه: (ما حُكِيَ في فضل مَن آثرَ أهل فاقةٍ بنفقة الحج ولم يحج)، وذلك في مناسكه المسماة بـ"هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك" (1/ 21-22، ط. دار البشائر الإسلامية)، جاء فيه: [رُوي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى دخل الكوفة وهو يريد الحج، فإذا بامرأة جالسة على مزبلة تنتف بطة، فوقع في نفسه أنها ميتة، فوقف وقال: يا هذه أميتة أم مذبوحة؟ فقالت: ميتة، وأنا أريد أن آكلها وعيالي، فقال: إن الله حرم أكل الميتة وأنت في هذا البلد، فقالت: يا هذا، انصرف عني، فلم يزل يراجعها الكلام حتى عرف منزلها، ثم انصرف فجعل على بغلٍ نفقةً وكسوةً وزادًا، وجاء فطرق الباب، ففتحت، فنزل عن البغل وضربه فدخل البيت، ثم قال للمرأة: هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد لكم، ثم أقام حتى جاء الحج، فجاءه قوم يهنئونه بالحج، فقال: ما حججت السنة، فقال له بعضهم: سبحان الله ألم أودعك نفقتي ونحن ذاهبون إلى عرفات؟! وقال الآخر: ألم تسقني في موضع كذا وكذا؟! وقال الآخر: ألم تشتر لي كذا وكذا؟! فقال: ما أدري ما تقولون! أما أنا فلم أحج العام، فلما كان من الليل أُتِيَ في منامه فقيل له: يا عبد الله بن المبارك، قد قبل الله صدقتك، وأنه بعث ملَكًا على صورتك فحج عنك] اهـ.
وعند الحنابلة: نصَّ الإمام أحمد على أن إطعام الجائعين وإعطاء المحتاجين أفضل من حج التطوع، وعلى أن الصدقة عند الحاجة لا يَعدلها شيء؛ لأن نفعها عامٌّ ومتعدٍّ، كما نصَّ الحنابلة كذلك على أن الوصية بالصدقة أفضل من الوصية بحج التطوع.
قال علاء الدين المَرْدَاوِيُّ في "تصحيح الفروع" (4/ 386، ط. مؤسسة الرسالة): [قلت: الصواب أن الصدقة زمن المجاعة على المحاويج أفضل، لا سيما الجار، خصوصًا صاحب العائلة، وأخص من ذلك القرابة، فهذا فيما يظهر لا يَعْدِلُه الحجُّ التطوع، بل النفسُ تقطعُ بهذا، وهذا نفع عام وهو متعدٍّ، والحج قاصر، وهو ظاهر كلام المجد في "شرحه" وغيره. وأما الصدقة مطلقًا، أو على القريب غير المحتاج: فالحج التطوع أفضل منه] اهـ.
وقال العلامة البُهُوتِيُّ في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 236، ط. عالم الكتب): [(ثم) أفضل تطوع البدن بعد الصلاة (ما تعدى نفعه) من صدقة، وعيادة مريض، وقضاء حاجة مسلم ونحوها (ويتفاوت) ما يتعدى نفعه في الفضل (فصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق) أجنبي؛ لأنها صدقة وصِلَة... (إلَّا زمن غلاء وحاجة) فالصدقة مطلقًا أفضل منه؛ لدعاء الحاجة إليها إذن (ثم حج) لقصور نفعه عليه] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فإن الإنفاق على الفقراء والمحتاجين أفضل من عمرة التطوع، وقواعد الشريعة وحكمة الله تعالى واضحة في توجيه العباد إلى فعل الخير على أساس تقديم الأهم والأصلح، وذلك يقتضي بأن يُقَدِّمَ السائلُ مصالحَ وحاجاتِ إخوانه من الفقراء والمحتاجين الذين هم في مسيس الحاجة إلى ما يؤويهم، وما يستعينون به على قضاء حوائجهم الضرورية.