من تقديم الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي وتأليف الدكتورة سهير عبد الفتاح زوجته، كتاب يمثل آخر ما سطرته قبل وفاتها منذ عام مضي. هو: (حياة صوت أم كلثوم) الذي ربما يندرج تحت بند السيرة الغيرية، وينضم لكتب كثيرة أخرى تناولت حياة أم كلثوم. غير أنه كتاب متفرد ومختلف، واختلافه جاء من أكثر من زاوية.
أول ملامح الكتاب هي اسمه الذي أعطي لصوت أم كلثوم حياة منفصلة عن حياة صاحبته. وقد سأل حجازي زوجته عن سر الإسم فقال: "لماذا لا تقولي حياة أم كلثوم؟!" فكان ردها: (لأن صوت أم كلثوم كيان مستقل يعيش مع الناس في حضور صاحبته وفي غيابها، وهو سيرة حياة لها أول، وليس لها آخر!).
[[system-code:ad:autoads]]
وبهذه الطريقة الأدبية الذكية سطرت مؤلفة الكتاب كتابها. فخرج على هيئة بسيطة جميلة رشيقة جذابة منذ أول صفحة تقرأها فتجد نفسك منساقاً لقراءة ما بعدها، وإذا بك قد انتهيت من قراءة الكتاب الماتع القصير دون أن تشعر. وربما لهذا السبب فقد أعيدت طباعة الكتاب مراراً ليصل إلى طبعته الثالثة بعد نفاد الطبعتين السابقتين وهو ما يشير بوضوح لإقبال الجمهور عليه وإعجابهم بمحتواه فكراً وأسلوباً، لاسيما وأن مؤلفة الكتاب لابد متأثرة بزوجها أدبياً وإبداعياً، وهو ما ظهر في ثنايا المعاني والألفاظ المنتقاة وصفاً وسرداً وبلاغة.
الكتاب يمثل جزءاً من فلسفة جديدة تتبناها الهيئة المصرية العامة للكتاب في إبراز مواطن القوة والتميز في تاريخ مصر المعنوي المتجسد في شخصياتها البارزة وقواها الناعمة المتدفقة من نبع لا يغيض من التميز والإبداع والعبقرية لدي نخب تتلوها نخب من الفنانين والأدباء والعلماء وقادة الفكر والرأي والثقافة. تلك الفلسفة التي بسطت مساحة كبيرة لاستعادة تراجم وآثار هذا النبع الفياض من عبقرية مصر وشخصيتها المتجسدة في أبنائها وبناتها الأفذاذ.
أم كلثوم كفنانة ومطربة تتربع على عرش الغناء العربي بلا منازع. وهي المكانة التي لم تصل إليها بسهولة ويسر، وإنما بذلت لأجل الوصول لها، إلى جانب موهبتها الغنائية والصوتية الاستثنائية، أقصي ما استطاعته من مجهود عقلي وبدني. وكان ذكاؤها في القدرة على توظيف إمكانياتها الصوتية الهائلة، مع توظيف إمكانيات الملحنين والشعراء الذين رافقوها خلال تلك المسيرة الطويلة الغنية من أجل إثراء المكتبة الصوتية العربية والعالمية بعدد هائل من الأغاني التي انحفرت في وجدان الذاكرة الغنائية لا في مصر وحدها بل والعالم كله.
الملمح الثاني الذي يميز الكتاب هو التصاعد السلس في أحداثه بشكل يجمع بين منطقية الارتقاء الزمني وبين العاطفة الوصفية المنبثة من الأسلوب الأدبي لمؤلفة الكتاب د/سهير عبد الفتاح. لاسيما وأنها قد تعمقت في دراسة الموسيقي بعد أن التحقت بالمعهد العالي للموسيقي العربية فتعلمت العزف على العود، ثم واصلت الدراسة في فرنسا لتحصل على الدكتوراه، ثم تعود لمصر لتقديم برنامج عن الموسيقي العربية في إذاعة فرنسا، وتكتب كتاباً عن الموسيقار محمد عبد الوهاب صدر سابقاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم كتابها هذا عن أم كلثوم. وقد ساعدها على تأليف الكتابين أن والدها الأستاذ عبد الفتاح غبن كان يعمل بالإذاعة المصرية وفى الصحافة، وكان يعرف كبار المطربين والملحنين في ذلك الوقت ويعرفونه.
أما أهم ملامح الكتاب فهي الطريقة الموسيقية المطربة لوصف أغاني أم كلثوم. إذ أن فهم مؤلفة الكتاب العميق للموسيقي وأسرارها جعلها تتوقف مع بعض أهم أغاني أم كلثوم وقفات وصفية، تشرح أسرار براعة الأداء فيها، ولماذا تميزت تلك الأغاني عن غيرها لحنا وأداءً. إنك إذ تقرأ هذا الوصف تتذكر على الفور طريقة عمار الشريعي في برنامجه الإذاعي الشهير "غواص في بحر النغم" مع الفارق بين الطريقة الشفوية والمكتوبة.
لم يتوقف الكتاب كثيراً عند المنحنيات الحياتية لدي أم كلثوم، بل سلط أغلب ضوئه المكثف نحو الأغاني وملحنيها. إنه كتاب يتناول زاوية حياة صوت أم كلثوم، ويريد ألا يحيد عن هذا الخط الذي رسمه لنفسه. وهو ما جعله كتاب مختلف عما سبقه من كتب تحركت في كل الاتجاهات والخطوط المحيطة بأم كلثوم لدرجة فقدان بوصلة الاتجاه والرؤية. ومثل هذا التركيز والتكثيف في تناول الكتاب هو ما جعله قوياً مؤثراً له رؤية خاصة وخط فلسفي واضح.
وفى الكتاب أسرار تنكشف أمام أنظار محبي أم كلثوم، يعرفون منها كيف أن الموزع عزيز صدقي كان هو الحصان الأسود والجندي المجهول في نجاح أغاني أم كلثوم، وكيف أنه كان من أسباب تشابه ألحان رياض السنباطي الأولي لألحان من سبقوه من ملحنين مثل القصبجي وزكريا أحمد، حيث كان الموزع الموسيقي واحد وهو عزيز صدقي. وأسرار أخري حول بدايات ظهور الأغنية الكلثومية الطويلة وكيف بدأت في الثلاثينيات في حفلاتها الشهرية الإذاعية حتي وصلت إلى كل أذن مصرية وعربية. لترسم أم كلثوم شكل العروض الغنائية لأجيال تالية. وتناول الكتاب أسباب تأخر أقوي أغانيها وأشهرها لأواخر حياتها، حينما بدأت في إسناد الألحان لملحنين قدامَي وشباب جدد، على رأسهم محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وسيد مكاوي ومحمد الموجي.
الكتاب على بساطته واختصاره ثري بالمعلومات قوي الوصف بليغ الأسلوب، وهو يمثل إضافة جميلة لمكتبة التراجم المصرية التي تناولت عباقرة مصر ومبدعيها.