اجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"هل مجرد العزم على الفطر دون تناول طعام أو شراب يفسد الصوم؟ فقد نويتُ صوم واجب عليَّ، وبعد أن شرعتُ فيه تذكَّرت بعض الأعمال الشاقة التي ينبغي عليَّ القيام بها، فعزمتُ على الفِطْر، لكن لم أتناول الطعام أو الشراب، ثم رَجعتُ عن هذا العَزْم وأكملتُ الصوم، فهل يصح صومي في هذه الحالة أو لا؟".
لترد دار الإفتاء موضحة: أنه مجرد العَزْم على الفِطْر بعد الشروع في الصوم الواجب لا يُبطل الصوم ما لم يرتَكب الصائم شيئًا من مُفسدات الصوم الأُخْرَى، وينبغي على الصائم المحافظة على الصوم بعد الشروع فيه ممَّا قد يُؤدِّي إلى الفِطْر، ما دام في حال السلامة والاختيار.
هل نية الفطر تفسد الصوم؟
قد اختلف الفقهاء في عدِّ مَن نوى صومًا واجبًا وشَرَع فيه، ثم نوى الفطر من الأمور المنافية لها في باب الصوم، من عدمه:
فيرى جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية في الصحيح، والشافعية في الأصح على ما ذهب إليه أكثرهم، والحنابلة في وجه: أَنَّ العَزْم على الفِطْر بعد عقد نية الصوم الواجب والشروع فيه لا يُبْطِل الصوم، ما دام ذلك لم يتجاوز النية إلى غيرها مِن ارتكاب شيء من مفسدات الصوم.
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (3/ 86، ط. دار المعرفة): [إذا أصبح ناويًا للصوم، ثم نوى الفطر لا يَبْطُل به صومه عندنا] اهـ.
وجاء في "الجامع لمسائل المدونة" (3/ 1182، ط. معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي- جامعة أم القرى) في مسألة "مَن أصبح في رمضان ينوي الإفطار فلم يأكل حتى غربت الشمس": [قال أشهب: لا كفارة عليه. م: يريد: لأنه لم يفطر وإنما نوى الفطر، فلا تجب الكفارة بالنية دون الفعل. م: ولعل أشهب يريد إذا كان قد تقدمت له نية الصوم ثم نوى الفطر، فهذا لا يرفض النية الأولى عنده إلا بالفعل] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 343، ط. مكتبة الرياض الحديثة) عند كلامه على الخلاف في رفع النية أثناء النهار في الصوم: [واختلف قوله وقول أصحابه فيمن رَفَع نية الصوم في بعض النهار مُتعمِّدًا، أو نَوَى الفطر إلَّا أنَّه لم يأكل ولم يشرب... وقيل: لا قضاء ولا كفارة حتى يفعل شيئًا من الأكل والشرب، وإن قلَّ عامدًا ذاكرًا لصومه. وهذه أصحها] اهـ.
وقال العلامة شهاب الدين النَّفَرَاوي المالكي في "الفواكه الدواني" (1/ 111): [كما لا يَبطُل الصومُ بالعزم على الفِطْر] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (3/ 282-285، ط. دار الفكر): [قال أصحابنا: العبادات في قطع النية على أضرب... الضرب الثالث: الصوم والاعتكاف، فإذا جزم في أثنائهما بنية الخروج منهما ففي بطلانهما وجهان مشهوران: وقد ذكرهما المصنف في بابيهما، أصحهما: لا يبطل، كالحج، وصحح المصنف في الصوم البطلان ووافقه عليه كثيرون، ولكن الأكثرون قالوا لا تبطل] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 133) عند الكلام على مسألة مَن نوى الإفطار: [وحُكي عن ابن حامد: أَنَّ الصوم لا يَفْسُد بذلك؛ لأنَّها عبادة يلزم المضي في فاسدها، فلم تَفْسُد بنية الخروج منها، كالحج... وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان] اهـ.
واستدلوا على ذلك بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: «وَإِنَّمَا الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ» أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"، ومعناه: أنَّ مِن خواص جملة المفطرات أنها تدخل للجوف، فما لا يَدْخُل لا يُفْطِر، والنية ليس فيها شيء داخل للجوف، فلا تُعَدُّ من المفطرات، وكما أَنَّ الخروج من سائر العبادات لا يكون بمجرد النية فكذلك مِن الصوم، كما أفاده الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 86).
مذهب المالكية وأحد قولي الشافعية في هذه المسألة
بينما ذهب المالكية في قولٍ، والشافعية في أحد الوجهين (صححه البغوي والشيرازي ومَن وافقهما)، والحنابلة في ظاهر المذهب إلى أَنَّ عقد نية الفطر بعد نية الصوم في النهار يُبْطِل الصوم.
قال العَلَّامة أبو الحسن اللخمي في "التبصرة" (2/ 743، ط. أوقاف قطر): [واختُلِف في وقوع الفطر بالنية من غير أكل ولا غيره مما يقع به الفطر إذا كانت النية بعد انعقاد الصوم وصحته، فجعله في "المدونة" مُفْطِرًا، وعليه القضاء] اهـ.
ثم قال بعد أن حَكَى قولًا آخر: [والأَوَّل أحسن؛ لأنَّ الإمساك لا يكون قُرْبة لله سبحانه إلَّا بالنية، فإذا أحدث هذا نية أنَّه لا يُمْسِك بقية يومه لله تعالى لم يكن مطيعًا ولا مُتقرِّبًا لله سبحانه، وكان بمنزلة مَن صَلَّى مِن الفريضة ركعتين ثم نوى أنه يتمها، على أنَّه غير مُتقرِّب لله سبحانه بما بقي من عمل تلك الصلاة وهو ذاكر غير ناسٍ لما دخل فيه، أو غَسَل بعض أعضائه بنية الطهارة ثم أَتمَّ ذلك على وجه التَّبرُّد، فإنه لا يجزئه شيء من ذلك] اهـ.
وقد نَقَل هذا القول أيضًا عن اللخمي العلامة أبو عبد الله الموَّاق في "التاج والإكليل" (3/ 361، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 297): [فإذا دَخَل في صومٍ ثم نَوَى قطعه، فهل يَبْطُل؟ فيه وجهان مشهوران ذَكَر المصنِّف دليلهما، أصحهما عند المصنِّف والبغوي وآخرين: بطلانه] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 133): [مسألة: قال: (ومَنْ نَوَى الإفطار فقد أفطر) هذا الظاهر مِن المذهب] اهـ.
واستدلوا على ذلك بأَنَّ الشروع في الصوم لا يستدعي فِعْلًا سوى نية الصوم، فكذلك الخروج لا يستدعي فِعْلًا سوى النية؛ ولأنَّ النية شرط أداء الصوم، وقد أَبْدَله بضده، وبدون الشرط لا تتأدَّى العبادة، وأَنَّ الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة.
المختار للفتوى في هذه المسألة
المختار للفتوى: ما ذهب إليه الحنفية، والمالكية في الأصح، وهو ما صححه الأكثرون من فقهاء الشافعية، والحنابلة في وجه من أَنَّ العَزْم على الفطر بعد الشروع في الصيام لا يُبْطِل الصوم؛ وذلك لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» متفقٌ عليه، والجزم بنية الفطر بعد الصوم دون ارتكاب شيء من المفطرات من قبيل حديث النَّفْس الذي تجاوز الله عنه كما قال العلامة السرخسي في "المبسوط" (3/ 86).
ومع ذلك: فإنَّه ينبغي التَّحرُّز في الصوم عَمَّا قد يستوجب الفِطْر، ولو قال به بعض العلماء؛ وذلك خروجًا مِن الخلاف، فالخروج منه مستحبٌّ، عملًا بالاحتياط الذي هو مطلوب شرعي، كما قَرَّره تاج الدين السبكي في "الأشباه والنظائر" (1/ 111-112، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 136-137، ط. دار الكتب العلمية).