من بين أكثر الإحصائيات المذهلة التي نتجت عن حرب الإبادة الإسرائيلية بحق قطاع غزة، إن أكثر من 650 ألف من سكان غزة لن يكون لديهم منزل يعودون إليه بمجرد أن تكمل إسرائيل حملتها العسكرية، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، ويمثل هذا المجموع ما يقرب من 30٪ من سكان الإقليم، ويقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إن "الكثيرين" لن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم على الفور بسبب الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وخطر الذخائر غير المنفجرة.
وبحسب تقرير نشرته صحيفةNPR الأمريكية، فحتى أوائل شهر فبراير، تم تدمير أكثر من 70,000 وحدة سكنية في غزة وتضرر ما يقرب من 300,000 وحدة أخرى، وفقًا لتقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، وهي تمثل مجتمعة 60% من إجمالي الوحدات السكنية في قطاع غزة، ونتيجة لتكل الإحصائيات الكارثية، فقد صنف الباحثون والمدافعون عن حقوق الإنسان، تلك الممارسات بأنها ترقى إلى مستوى جريمة "قتل المنازل"، أو التدمير الواسع النطاق أو المنهجي للمنازل، وهي جريمة ترتكب غالبًا أثناء النزاع.
وقد يظن القارئ الذي يمكث في مكان بعيد لا علاقة له بالنزاع، أن تلك الأرقام هي مجردة، ولكن الواقع يقول أن خلف كل من هذه الأرقام هناك عائلات تعاني الآن من فقدان منازلها، كما يقول عمار عزوز، زميل باحث في جامعة أكسفورد ومؤلف كتاب "قتل المنازل : الهندسة المعمارية والحرب وتدمير المنزل في سوريا"، وتابع: "هذا منزل عائلة الادخار وسبل العيش وأحلام ومستقبل الناس، فعندما تمضي أنظار العالم وتنسى ما حدث، يبقى هذا الألم والمعاناة والتمزق مع الناس لعقود، لأن هذه كانت حياتهم الضائعة، ووقتهم الضائع، وهم يحزنون عليها".
ما هو قتل المنزل؟
بحسب الصحيفة الأمريكية، فقد بدأ استخدام كلمة "القتل المنزلي" في كثير من الأحيان، وفي أغلب الأحيان في سياق الصراعات الكبرى، كما تم استخدامه أيضًا في سياقات غير عنيفة، كما هو الحال عندما تم تدمير المنازل في كندا لإفساح المجال لبناء السدود الكهرومائية، وقال عزوز إن معناها يمكن أن يكون حرفيا ورمزيا، فنحن لا نشير فقط إلى الدمار الملموس، أي منازل الناس وشققهم وممتلكاتهم، ولكن أيضًا إلى الدمار الرمزي الذي نشهده، والذي قد يتعلق بإحساسهم بالهوية والانتماء والأمن والأمان".
وأضاف: "قتل المنازل أصبح سمة من سمات الصراع في الشرق الأوسط، من الموصل في العراق إلى حلب وحمص في موطنه سوريا"، ويرى عزوز وآخرون أن هذا النوع من الدمار يلحق ضرراً نفسياً عميقاً بالناس، الذين تعني خسارة منزلهم بالنسبة لهم فقداناً عميقاً للأمن والراحة والذكريات.
ما تظهره الأرقام في غزة
وقد تضررت أو دمرت أكثر من نصف المباني في غزة حتى 2 فبراير، وفقًا لتحليل صور الأقمار الصناعية التي أجراها فريق من الباحثين في جامعة ولاية أوريغون وجامعة مدينة نيويورك، وفي شمال غزة، وهي المنطقة الأكثر اكتظاظا بالسكان في القطاع قبل الحرب، تعرض ما يصل إلى 82.9% من جميع المباني لأضرار أو دمرت.
ومع تقدم القتال جنوبا، اضطر أكثر من نصف سكان غزة إلى التوجه إلى رفح، المدينة الرئيسية الواقعة في أقصى جنوب القطاع، حسبما يقول مسؤولون في الأمم المتحدة، فالشقق والمنازل التي كانت تسكنها عائلة واحدة في السابق تتسع الآن لأكثر من 100 شخص، حسبما صرحت عائلات في غزة لإذاعةNPR، وتقول وكالتها في غزة إن الملاجئ التي تديرها الأمم المتحدة تعمل بأربعة أضعاف طاقتها الاستيعابية أو أكثر، أما أولئك الذين ليس لديهم مكان آخر يلجأون إليه، فيعيشون الآن في الخيام.
ماذا يقول القانون الدولي عن قتل المنازل؟
ولا تظهر كلمة "قتل المنازل" في اتفاقيات جنيف، التي تحكم القانون الدولي بشأن معاملة المدنيين أثناء النزاع، ولكن تحظر معاهدات جنيف الأعمال الانتقامية ضد المدنيين وممتلكاتهم، وتطالب بأن يكون أي تدمير للممتلكات "ضرورياً للغاية من خلال العمليات العسكرية"، وقد دعا أحد مسؤولي الأمم المتحدة إلى تغيير ذلك، وفي مقال رأي نُشر في أواخر الشهر الماضي في صحيفة نيويورك تايمز، دعا بالاكريشنان راجاجوبال، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في السكن الملائم، إلى تقنين جرائم قتل المنازل بشكل صريح في القانون الإنساني الدولي.
وكتب راجاجوبال: "إن التسوية المنهجية والعشوائية لأحياء بأكملها بالأرض باستخدام الأسلحة المتفجرة - كما حدث في حلب وماريوبول وغروزني وبلدات في ميانمار، أو بشكل أكثر حدة هذه الأيام في غزة - يجب اعتبارها جريمة ضد الإنسانية"، وتابع: "ندرك جميعًا أن القتل يمكن أن يكون جريمة قتل، أو جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية، أو عملاً من أعمال الإبادة الجماعية، اعتمادًا على خطورة الفعل والنية. وينبغي أن ينطبق الشيء نفسه على تدمير المنازل".
دليل إدانة أمام محكمة العدل الدولية
ووفقا للصحيفة الأمريكية، فقد كان تدمير المنازل جزءا أساسيا من الحجة التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي الشهر الماضي، عندما اتهمت إسرائيل رسميا بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وقد نفت إسرائيل، الدولة التي تأسست في أعقاب المحرقة، بشدة اتهامات جنوب أفريقيا، وزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن تهمة الإبادة الجماعية بأنها "شائنة" و"محاولة لحرمان إسرائيل من الحق الأساسي" في الدفاع عن نفسها، وتقول وزارة الصحة في غزة إن الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة أدت إلى مقتل ما يقرب من 28 ألف فلسطيني، لكن جنوب أفريقيا تقول إن تصرفات إسرائيل تتجاوز هذا الرقم، وتقول القضية إن إسرائيل "تفرض على الفلسطينيين ظروفاً معيشية تهدف إلى تدميرهم كمجموعة، بما في ذلك التهجير الجماعي والتدمير واسع النطاق للمنازل والمناطق السكنية.
وفي أواخر الشهر الماضي، وجدت المحكمة أنه "من المعقول" أن إسرائيل ارتكبت أعمالا تنتهك اتفاقيات جنيف، وأمرت إسرائيل بضمان عدم ارتكاب قواتها أي أعمال من هذا القبيل، ولكن حتى لو انتهت الحرب اليوم، فإن النقص الحاد في المساكن في غزة سوف يستمر لسنوات عديدة، لذلك فإن إعادة إعمار غزة ستكون مهمة شاقة ومكلفة، ويقول مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إن كمية الركام والحطام الناتجة عن الغارات الجوية وعمليات الهدم وحدها مذهلة للغاية لدرجة أن مجرد إزالتها قد يستغرق أكثر من أربع سنوات.