في زمن أصبح الفلتر هو المسيطر على ظهور البشر والمغير لملامحهم والمُجمِّل لصورهم، حتى امتدَّ الفلتر إلى دواخل الناس فأصبحوا يُظهرون خلاف ما يضمرون، فترى الأشياء على غير حقيقتها، ثم تتفاجأ بها حين تصطدم بواقعها فتتبدَّى لك الحقائق، عندما يُنزع الفلتر وترى الواقع على حقيقته.
[[system-code:ad:autoads]]هذا ببساطة ما فعلته الكاتبة الروائية نسمة الجمل في روايتها (حورية)، فقد أزالت الفلاتر عن شخصيات روايتها وجعلتهم يُظهرون أعمق ما بداخلهم من مساوئ وأطماع وضعف واستسلام وامتثال للشهوات وخضوع لدناءة النفس البشرية في الانتقام والاستغلال والظلم بل والقتل بدم بارد.
[[system-code:ad:autoads]]بعض الكُتَّاب يجعلون من حكاياتهم عالمًا جميلًا مثاليًّا يهرب القارئ إليه طواعيةً ثم سرعان ما يعود إلى واقعه فتحدث لديه صراعات بين حقيقة ما يعيشه وهذا الذي قرأه منذ قليل، لعل هذه النوعية مطلوبة أحيانًا على سبيل التسلية وملء فراغ الوقت، كمشاهدة فيلم بلا مضمون لمجرد تعبئة الوقت، لكن مثل هذه الأعمال لا تترك فيك أثرًا ولا تخرج منها بفكرة أو مشاعر جديدة أو صدمة.
لقد استطاعت رواية (حورية) أن تتوغل في صدمة القارئ، رواية (حورية) تترك فيك أثرًا وتكشف لك البشر بلا فلاتر، فتعيش مع الشخصيات وكأنهم رفقاؤك ومعارفك فتقترب منهم وتعاينهم وتفهم أبعادهم وطريقة تفكيرهم وتتنبأ بتصرفاتهم، فعلى سبيل المثال شخصية مثل (فاتن) وهي صديقة بطلة الرواية، ستجدها رغم حبها الشديد لصديقتها إلا أنها كانت جزءًا من المخطط الذي وقعت فيه البطلة حتى يأتي مشهد كشف الحقيقة ومواجهة البطلة بصديقتها وأجدني أتعاطف مع الدوافع وكذلك تفعل البطلة، هذا التفاعل بين القارئ وشخصيات الرواية وإحساسهما بالمشاعر ذاتها يجعلك تصدق ما تقرأ وتعيش هذه الحالة الشعورية بواقعية فتصبح طرفًا ثالثًا حاضرًا داخل المشهد بتفاصيله.
ومع هذه الحالة من المعايشة لشخصيات الرواية، نجد التحولات التي تحدث لكل شخصية، فهذه تتحول من فريسة مستَأنسَة إلى وحشٍ ثائر لا يرحم، وهذا يتحول من شخص يبحث عن حقه والوصول لأخيه إلى شخص يُستخدَم للتلاعب به وتحقيق أهداف الآخرين، وهذه تتحوَّل من محبَّة إلى خائنة إلى نادمة ثم لتائهة لا تدري ماذا تفعل، وهكذا تتأرجح بنا الرواية مع أحداثها وتحولات أبطالها لتضعنا أمام عدة تساؤلات:
- هل نعرف أنفسنا حق المعرفة؟
- هل نستطيع أن نتوقع تصرفاتنا إذا وقعنا في مواقف لم تكن في حسباننا؟
- هل يمكننا وضع الثقة المطلقة في أقرب الناس لنا؟
الإجابة على هذه التساؤلات وضعتها الكاتبة نسمة الجمل بصورة عمليَّة من واقع الحياة بخلق الدوافع وإيجاد المبررات ووضع الحلول، فتجعل القارئ ينفتح لعوالم أعمق وأكبر اتساعًا تساعده على فهم الحياة وفهم ذاته من خلال تجربة المعايشة التي امتازت بها هذه الرواية فهي تسرق القارئ من عالمه المحدود إلى عالم الرواية فيشعر بأنه أحد شخصياتها ويتأثر بهم ويتفاعل معهم ويعيش معاناتهم ويدرك حقيقتهم.
استوقفتني شخصية الضابط (علاء سليم)، أحيانًا أشعر بأنه ضابط داهية في غاية الذكاء، وأحيانًا أراه شخصًا عاديًّا عاجزًا عن إيجاد الحلول، شعرت في لحظات أنه رومانسي حالم، ثم وجدته في لحظات أخرى غليظًا قاسيًا، فكانت الكاتبة موفقة في وصف هذه الشخصية بلقب (موج) ولكنها أخذت من هذا اللقب فكرة الثورة واندفاع الأمواج، أما أنا فاستنتجت من هذا اللقب أنه متقلب كموج البحر، يهدأ حتى تظنه أنه لن يثور مجددًا، ثم يباغتك بسرعته في الانقضاض، هي شخصية لا تملك أن تحبها وبالوقت نفسه لا تستطيع أن تكرهها، في رأيي إن شخصية علاء سليم هي أشد شخصيات الرواية تعقيدًا وغموضًا، بعكس حورية التي أراها شديدة الوضوح في جميع تحولاتها، وتستطيع أن تفهمها بسهولة وتلتمس لها الأعذار في بعض المواقف.
لا أستطيع أن أغفل الصوت الشعبي والتراثي في الرواية، استخدام شخصية (بهلول) رمزية للضمير الغائب عن أبطال الرواية الأساسيين، وهو نموذج للمجاذيب في التراث الشعبي، واستخدام (تمثال مامي واتا) من التراث الإفريقي لوصف بطل الرواية في رمزية لتجسيد نظرته وطريقة رؤيته للحياة ولنفسه، أرى هذه الرمزيات مثل النظارة التي تهديها الكاتبة لقارئ روايتها حتى ينظر من خلالها إلى الجانب المسكوت عنه وتخبره بما لم تقله الرواية، وأنا من عشاق هذه الطريقة في السرد الروائي.
من الأشياء التي أعجبتني في هذه الرواية هو استخدام الكاتبة في افتتاحية روايتها جملة أراها ذكية تقول: (لو كان للخيبات تأثير خارجي لكانت المباني منهارة من شدة قوتها) ص7، ثم قرأت داخل الرواية هذا الوصف: (لو كان للغرفة الصغيرة أن تفعل شيئًا من أفعال البشر لبكت معها، لبكى كل شيء داخلها) ص138، هذا التفاعل بين حالة الإنسان وشعوره الداخلي وبين الجمادات وما يحيط به خلق حالة بعيدة عن مجرد فكرة تحريك أشخاص الرواية إلى تحريك الجمادات وتأثرها بالبشر! فاستشعرت مدى اتساق الجملة الافتتاحية مع مضمون الرواية، وظهر ذلك في استخدام الجمادات ضمن أحداثها مثل: الآلة الكاتبة، مذكرات جلال، التمثال، علبة الحلوى، صورة حورية في منزل كرم، وغيرها من الجمادات التي لعبت دورًا في أحداث الرواية، كأنها ضمن الشخصيات.
عندما وصلت إلى نهاية الرواية، وجدت نهايتها تفتح لنهايات أخرى علقت بذهني وتركتني في حيرة من أمري، ربما لم أتعاطف مع حورية في النهاية، ولم أحب الطريقة التي توقف عندها علاء سليم، ولم أفهم جيدًا ما دور كرم في الظهور الأخير له، ولماذا أضاعت فاتن فرصة تغيير انطباع صديقتها والنظر إلى تاريخها النفسي، ربما تعمَّدت الكاتبة خلق نهايات أبعد من نهاية الرواية المكتوبة فتركت لها المجال لخيال القارئ، أو أن هناك جزءًا ثانيًا للراوية سيكمل الأحداث مع حورية ومن حولها، لكن ما أستطيع أن أصف به هذه الرواية هو أنها بدون فلاتر، من بدايتها إلى نهايتها أزالت كل الفلاتر عن الشخصيات فجعلتها أقرب إلى الحقيقة وأقرب إلى تصور القارئ، ليعيش 194 صفحة من الصدق ويتأرجح بين واقع رواية حورية وواقع حياته الشخصية في شد وجذب وسؤال وإجابة، ولكن (بدون فلاتر).