كان الطفل يبلغ من العمر أربعة أشهر تقريبًا عندما لاحظت أمه لأول مرة أنه يحب قضاء وقت طويل في القيام بنفس الشيء مرارًا وتكرارًا، وفي معظم ساعات يقظته، عندما لم يكن يأكل أو يتبرز، كان يركز على محاولة لمس الألعاب الموجودة في الهاتف المحمول فوق سريره، وقد استمر في ذلك لأسابيع، حتى بعد أن أتقن عملية لمس اللعبة وشدها، ورغم بلوغ الطفل 3 سنوات من العمر، إلا أنه لا يزال مشغولاً بفعل الأشياء بشكل متكرر، كل شيء بدءًا من تناول الأطعمة المفضلة لديه، وحتى اللعب بألعاب معينة مفضلة، وحتى مشاهدة مقاطع الفيديو نفسها علىYouTube مرارًا وتكرارًا.
وكانت هناك فترة من الوقت في الصيف الماضي عندما كان كل ما يريد مشاهدته هو مقطع فيديو عن الجرارات والمعدات الزراعية، فقد شاهده كثيرًا لدرجة أن الأم أصبحت تشعر بحساسية الطفل تجاه الموسيقى التصويرية، وكان عقله يبدأ في التوقف عن العمل في كل مرة أسمع فيها موسيقى الخلفية الباهتة ذات اللحن المعتدل، ومازال حماس الرجل الصغير للفيديو كان لا يتزعزع، وعلى الرغم من أن هذه المهام المتكررة قد تكون مزعجة لنا نحن الآباء، إلا أن التكرار "له وظائف عديدة" في تنمية الطفولة، كما تقول ريبيكا بارلاكيان، مديرة البرامج في منظمةZero To Three غير الربحية ، والتي تركز على تنمية الطفولة المبكرة.
إحدى هذه الوظائف التعلم والإتقان
بحسب تقرير نشرته صحيفةNPR الأمريكية، تقول بارلاكيان: "الأطفال الصغار هم حقًا أكثر البشر إصرارًا، فهم مدفوعون فقط للسيطرة على العالم من حولهم، ويفعلون ذلك من خلال التكرار"، وتضيف أن هناك أساسًا عصبيًا لذلك، حيث يتطلب التعلم بناء دوائر عصبية، والتكرار يتيح ذلك.
ويقول عالم الأعصاب في جامعة هارفارد تشارلز نيلسون، الثالث : "إن توصيلات الدماغ أصبحت ممكنة عن طريق التكرار، وإذا كان لديك مجموعة كاملة من الخلايا العصبية التي يجب أن تبدأ في التطور إلى دائرة، فيجب تحفيزها مرارًا وتكرارًا، فالخلايا العصبية التي تنشط معًا، تترابط معًا"، ويوضح نيلسون أنه منذ الأسابيع الأخيرة قبل الولادة وحتى السنوات القليلة الأولى من حياة الطفل، يفرط الدماغ في إنتاج المشابك العصبية - وهي الروابط بين الخلايا العصبية.
الاستفادة من هذه اللدونة الهائلة
اللدونة تعنى التشكيل الذاتي والرباني، ويقول نيلسون: "الأمر المميز في تلك السنوات القليلة الأولى هو الاستفادة من هذه اللدونة الهائلة بسبب هذه الوفرة المفرطة في المشابك العصبية، حيث تسمح هذه اللدونة للأطفال بتعلم وتطوير مهارات جديدة، وبالتالي مسارات عصبية، وذلك مع إنشاء دوائر عصبية جديدة بالخبرة والتكرار، يتم فقدان أو تشذيب المشابك العصبية الزائدة غير المستخدمة، وعندما تكرر الأصوات مرة أخرى، فإن ما تفعله هو تعزيز الدائرة وتقليص المشابك العصبية الغزيرة".
وعلى مدار مرحلة الطفولة وحتى المراهقة، يؤدي ذلك إلى تكوين دوائر الدماغ بأكملها، حيث تتخصص كل منطقة ودائرة في أدوارها المختلفة، وتقول بارلاكيان: "لدينا هذه العبارة في ثقافتنا - الممارسة تؤدي إلى الكمال، ولكن عندما يتعلق الأمر بنمو الدماغ، فإن الممارسة تجعلها دائمة"، وتوضح: "الأطفال الصغار والأطفال يشبهون العلماء الصغار، فهم دائمًا يختبرون ويعيدون الاختبار لمعرفة قواعد العالم من حولهم، ويفعلون ذلك من خلال التكرار".
التعلم بالتكرار يعقبه لقدرة على التنبؤ بالأشياء
وتشرح بارلاكيان: "فكر في سيناريو شائع حقًا، مثل قيام طفل، أو حتى طفل رضيع، بإلقاء الطعام من الكرسي المرتفع، فيقفز عليه الكلب ويأكله". "إنها لعبة رائعة ومرضية حتى ينفد الجبن من الطفل ثم يرمي الملعقة من جانبه، وهكذا يتعلم الطفل أن الملعقة تخيف الكلب ويبتعد عنه، ثم فجأة تغيرت اللعبة وأصبحوا يتعلمون حقًا شيئًا عن كيفية عمل عالمهم".
وتقول إنه عندما يتعلم الأطفال الأشياء من خلال القيام بالأشياء مرارًا وتكرارًا، فإنهم أيضًا يبدأون في الشعور ببعض الراحة من قدرتهم على التنبؤ بكيفية حدوث شيء ما، فهناك شيء ممتع جدًا عندما يمكنك توقع ما سيحدث بالضبط في الروتين أو في القصة، وهذا واضح بشكل خاص خلال روتين ابننا الليلي، والذي يتضمن أنا وزوجي قراءة كتبه المفضلة، وأحيانًا أيام أو أسابيع من نفس الكتاب (غالبًا ما يتضمن مركبات البناء) مرارًا وتكرارًا.
"فالآن أفهم أن هذا الروتين الليلي قد علمه الكثير عن الأنواع المختلفة من الشاحنات، وأدوارها الفردية وكيف تساعد في خلق البيئة الحضرية التي نعيش فيها، وقد منحه أيضًا الراحة والأمان عندما يعلم أنه بمجرد انتهائنا من القراءة، سوف ينام ورأسه على كتفي، لذا، إذا كنت أحد الوالدين لطفل صغير يشعر بالغضب من تكرار حلقات النكات أو الألعاب أو القصص لطفلك، فاعلم أنه يجتهد في العمل على ممارسة وإتقان معارفه ومهاراته المكتشفة حديثًا، وبناء البنية التحتية الخاصة به، فالعقول في هذه العملية".