أحببتُها، بل إنَّني وُلدتُ يومَ وُلدتُ بِحُبِّها، احتضنتني منذ انطلقت أولى صرخاتي في عالم الحياة، حين سمعت بها صوت الأذان عن يميني والإقامة عن يساري، هَدْهَدَتْنِي بحنانِ أمٍّ تدعوه أن يطمئنَّ ويستكينَ بكلماتٍ تُطرِبُ الآذانَ حين تغنَّى بها صوتُ أمِّي، أحببتُ الحديثَ بها، حين بدأ لساني ينطقُ حروفًا لا تُفيدُ أيَّ معنى، فاستوعبتني وساعدتني لأنطق بها؛ لأُعبِّر عن رغباتي وأفكاري وإرادتي، هيَّأت تفكيري لأتحدَّث معي بها، بيني وبين روحي، تفهمني وأفهمها، تشعرُ بي قبلَ أن يتحرَّك بحروفِها لساني الذي يسبقه نبضي، أحببتُها حين كَبِرْتُ وأدركتُ أنَّ لُغةَ القرآنِ هي لُغتي العرَبِيَّة.
هذه اللغةُ استحقَّت التكريمَ يومَ اختارَها ربُّ العالمينَ؛ لِيُنْزِلَ بها قرآنَهُ على قلبِ خاتمِ المرسلين بلسانٍ عربيٍّ مُبِين، فأيُّ تكريمٍ بعدَ ذلك! لم أتوقَّف يومًا عن البحث في سرِّ «لماذا اللغة العربية؟» ولماذا هي تحديدًا وليس غيرها؟ هذا السرُّ الذي أردتُ معرفته فلم أهتدِ إلى جوابٍ واحد، فالسرُّ أسرارٌ وأسرار، وإني في هذا المقال أكتفي بسرٍّ واحدٍ من أسرار «لماذا اللغة العربية؟» وهو «التربية».
يقولُ رب العزة جل في علاه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (سورة الإسراء: 9)، ولأنَّ هذا القرآن يهدي فيحتاج إلى لغةٍ تُعِين على أداء تلك المهمَّةِ العظيمةِ وهي الهداية؛ فكانت اللغةُ العربيةُ لُغةَ هِدايةٍ تُربِّي النفوسَ وتُعلِّمُ البشرَ، فكيف نغفلُ عن دور هذه اللغة العظيمة في التربية؟ إنَّها وسيلةٌ ذات جذورٍ بصفحات التاريخ، ما فَشِلَتْ يومًا في تربية الناس صغارًا وكبارًا؛ لِمَا لها من سحرٍ وجمالٍ وتهذِيب.
السِّحْرُ الأوَّلُ: اللغة العربية وتربية الأخلاق:
أقامَ المؤذنُ للصلاةِ وغابَ الإمامُ الرَّاتبُ، فقال أحدُ المُصلِّين قدِّموا الأستاذَ فلان فإنه مُدرِّسٌ للغة العربية، فتساءلت في نفسي: ما العلاقة؟ فقد تولَّد لدى الذهن العربي أنَّ دارسَ العربيةِ هو على اتصال مباشرٍ بالقرآن، وإنَّ من تعلَّمَ اللغة العربية يجد لها أثرًا في طريقة كلامه، فينتقي من الألفاظ أجملها، ويجد لها أثرًا في طريقة تفكيره، فيُحسن التفكيرَ حين يتحدَّثُ بها في عقله، ويجد لها أثرًا في سلوكه فهي تجعل الإنسانَ ذا مروءة، فكما جاء في الأثر منسوبًا إلى سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –، وقيل إنه للإمام الشافعي: «تعلَّموا العربية، فإنها تُثبت العقل، وتزيد في المروءة»، كيف لِلُغَةٍ أن تُربِّي في الإنسان الأخلاق؟ إن هذا من خصائص اللغة العربية التي زادَها الله تشريفًا بنزولِ القرآنِ بها، فإنَّ لتكوين الحروف داخل الكلمات أثرًا عجيبًا في تعليم الأخلاق، فصاحبُ اللغةِ العربيةِ المُتقنِ لها، الفاهم لمعانيها، الجامع لمفرداتها، هو صاحب أمانةٍ وصدقٍ وورعٍ وحياءٍ وحكمةٍ ورجاحةِ عقلٍ ومكانةٍ بين الناس، هل تظن أنَّ اللغةَ العربيةَ صمَّاءٌ لا روح فيها، حقًّا إن بعض الظنِّ إثم، فاللغة العربية مِشكاةٌ تُضِيءُ مسلكَ كلِّ من تعلَّق بها ودرسَها، والنابغُ في اللغةِ العربيةِ شخصٌ ذو أخلاقٍ عالية.
السِّحْرُ الثَّاني: اللغة العربية وتربية الروح:
إنها المرآة البيضاء التي يرى فيها الإنسانُ نفسَه بوضوحٍ، تتَّصِلُ بِلا واسطةٍ بألفاظِها وجُمَلِها وجَمَالِها اتِّصَالًا مباشرًا بالرُّوح، فكلما جعلتَ نفسَكَ تنهلُ من أشعارِها ونثرِها ونَظْمِهَا، ارتقتْ الرُّوحُ إلى درجةٍ أعلى من الصَّفاء والرَّاحةِ والجَمَال، اللغةُ العربيةُ تربِّي الأرواح لتعلو بها من مُستنقعِ الرَّغباتِ الدُّنْيَويَّة إلى السَّحائِبِ السَّماوِيَّة، فبها تنزَّلَ القرآنُ من الأعلى ليهبطَ على دنيا البشر فيأخذُ بِهم إلى الأعلى، ومع كلِّ علوٍّ ستجد للُّغةِ العربيةِ فيهِ نَصيبًا، ولأنَّ بها تتربَّى الرُّوحُ وتستكينُ فقد نزلَ بها الرُّوحُ الأمينُ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، ومَنْ تربَّى على اللغة العربية ارتقت رُوحُه داخلَ جَسَدِهِ إلى درجاتٍ عَالِيَةٍ.
السِّحْرُ الثَّالثُ: اللغة العربية وتربية العقل:
لن أُبَالغَ – وإنْ كانتْ المُبالغةُ في حقِّ اللغةِ العَرَبِيَّةِ مَحْمُودَةٌ – حينَ أقولُ إنَّ اللغةَ العربيةَ لغةُ عقلٍ، وسُبْحانَه أصدَق من قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (سورة يوسف: 2)، و{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (سورة الزخرف: 3) فما هذه العلاقة الغربية بين اللغة العربية وتربيةِ العقولِ والأفهامِ؟ إذا أخذنا الإعراب مِثالًا واحدًا للاستدلال على علاقة اللغة العربية بالعقل، سنجدُ أنَّ الاسمَ الواحدَ قد يأتي مَرفوعًا أو مَنصوبًا أو مَجرورًا حسب مَوْقِعِه داخل الجملة، وسنجدُ الاسمَ الممنوعَ من الصرفِ يُجَرُّ بالفتحِ، وإذا عُرِّفَ بالألفِ واللَّامِ أو بِالإضافةِ يُجَرُّ بالكسر، وإذا نظرنا إلى الفعل وجدنا المضارعَ يتنقَّلُ بينَ الرَّفعِ والنصبِ والجزمِ ولكلٍّ منها حالات، وللإعراب علاماتٌ منها الأصلية ومنها الفرعية، وكلُّ الإعرابِ يحتاجُ إلى إعمالِ العقلِ وسلامةِ الفَهْمِ، وهذا يجعلُ اللغةَ العربيةَ لغةَ عقلٍ تُربِّيهِ وترتقي به في درجاتِ الفَهْمِ السليمِ والعقلِ القَوِيم، فيَحسُن بها التفكيرُ ويَرجَحُ بها الرأيُ، وقد ذكرنا فيما سبق هذه المقولة لقائلها: «فإنَّها تثبت العقلَ».
السِّحْرُ الرَّابِعُ: اللغة العربية وتربية الذَّوْق:
من ذاقَ اللغةَ العربية وشعرَ بحلاوة معانيها وبديعِ ألفاظِها وتفرُّدِ تراكيبِها وإيقاعِ مُفرداتِها حسُنت ذائقتُه ورأى الجمالَ جميلًا والقبحَ قبيحًا، فجمال الأشياء وقبحها أساسهما ومنشأهما هو الذَّوْق، فسلِّم ذوقَكَ لِلَّغةِ العربية، لأشعارها وقصائدها وكتبِها وأُدبائِها وقصصِها وكلِّ ما خطَّه عربيٌّ بِيدِه، ونسجَهُ مبدعٌ بخيالِه، فرَسَمَ بالكلماتِ بيتًا أو فقرةً أو مقالًا أو روايةً أو قصةً أو شرحًا أو مَثَلًا، إن اللغة العربية لغة ذوقٍ وبهاءٍ، ولم يكن الأمراء يُكرِمونَ أهلَ الفصاحةِ والبيانِ ويُطْرَبُون لما تسمعه منهم آذانهم؛ إلَّا لأنَّ اللغةَ العربية ربَّت فيهم الذَّوْق، وفي الحديث الصحيحِ عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ – رضيَ الله عنهما – أنَّه قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجِبَ الناسُ لبَيَانِهما، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم –: «إنَّ مِنَ البيانِ لَسِحْرًا»، وفي رواية: «إنَّ بعضَ البَيَانِ سِحْرٌ»، والسِّحْرُ في البيانِ يُرَبِّي الأذواقَ ويُهذِّبُها ويَرقَى بها، فاللغة العربية لغة بيانٍ ومعانٍ وبديعٍ، لُغةُ مجازٍ وجِنَاسٍ وطِبَاقٍ وكِنَايَةٍ واستِعَارَةٍ وتصريحٍ وتلميحٍ وتشبيه، فكيفَ لِمَنْ تَرَبَّى على اللغةِ العربيةِ أَلَّا يَحسُن ذوقُه ويمتلك القدرةَ على التَّميِيزِ بينَ الحَسَنِ والرَّدِيء!
اِمْنَحُوا أبناءَكُم لِلُّغةِ العربيَّة، واهدُوا إليهم لُغتَهُم العربية، فبين مؤثِّرٍ ومُتأثِّرٍ سيَنْشَأُ أعظمُ الأثرِ، ستُعطِيهم ويُعطُونَها، وتأخذُ مِنهُم وترُدُّ إِليهم، مَعِينُها فيَّاض، وسِحْرُها غامر، ومَعرُوفُها واسع، وبَحْرُها كريم، وخَيرُها عظيم، رَبُّوهم على اللغة العربية تشتدُّ بها أصلابُهم وتُهذَّبُ بها أخلاقُهم وتسمو بها أرْوَاحُهُم وتَرْجُحُ بها عقُولُهم وترقَى بها أذواقُهم وتَحسُنُ بها سِيرَتُهم بين الناسِ، هنيئًا لمن تعلَّمَ اللغةَ العربيةَ وفَهِمَهَا وأحبَّها وشَابَ عليْها وأفْنَى حياتَه مُخْلِصًا لَهَا.
[[system-code:ad:autoads]]