الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هادي التونسي يكتب: من أنا

د. هادي التونسي -
د. هادي التونسي - طبيب وسفير سابق

يراها الوالدان مازالت طفلة، و يعتبرها الرفاق الفخورون بالغة تماما، لم تعد تستطيع انكار مظاهر البلوغ جسدا، لكنها ليست بنضج و خبرة و ثقة البالغين. مازالت تود أن تمسك بيدي الوالدين فلماذا تفقد دعمهما! لكن حيرة مثيرة تدفعها للتطلع لمستقبل تتعجله، حزن ناعم يعتريها لا تريده أن يستمر، فتهرع لممارسة الرياضة لربما تستنفذ طاقة، غذت مشاعرها المتضاربة، وأصابتها بالتصدع؛ فالطاقة موزعة بين رغبة غامضة دافعة وصبر نافذ، تخشى معه ألا تعد تعرف من هي.
تحلم أن تسافر العالم، أن تصبح كالمشاهير، وأن تنطلق معبرة عن مكنون نفسها؛ عن مشاعرها الحميمة وأفكارها الحيوية؛ أن تخوض حياة مثيرة كالأفلام التي الهبت خيالها، دون أن تفقد الأمان الدافئ في أحضان الوالدين، فمستقبلها سر عظيم يصاحب نموها، تعتركه في خوف وحيرة أن تفقد هويتها بين طفولة لن تعود و مجهول لا يأتي و لا يحتمله صبرها، لياليها طويلة وحيدة، لا تجد فيها من تأنس إليه سوي قلبها، تحدثه و تراوده، فهو الملجأ ومنشأ الآمال والأحلام، وهو دافع احتمال التصدع بين نفاذ الصبر و الرغبة الجامحة، وهو الطريق الوحيد الحميم علي طوله لإنهاء التصدع وتحقيق الأحلام وإشباع الرغبات.
من أنا هو السؤال المتجدد في مراحل الحياة، من أنا أثناء الطفولة و المراهقة و بعد التخرج وعند الزواج وفي منتصف العمر وبعد المعاش، من أنا حين أتعلم عن ضرورات الحياة، وعندما أنمو نفسيا و روحيا، من أنا وقت الشدائد أو مع السلطة والمجد، من أنا وقت العوز والثراء وعند الخلاف و الوفاق ووقت الصحة و المرض وعند الوفاة، من أنا، ولماذا كنت، وكيف سأكون، وماذا كسبت و خسرت، والأهم وماذا تعلمت في رحلة الحياة، التي لم أخلق فيها عبثًا.
من أنا هو السؤال المحوري و بداية طريق لا يمكن سلوكه و اجتيازه دون أن أعرف بدايته، حتي أتحمل حيرته، وأستدعي طاقة إنجازه، وأستوعب تجربته، وأبلغ حكمته. من أنا سؤال جوهري طالما ظل دون إجابة لن أعرف من أنت، وسيظل الغير مجهولا أو منسيا أو إسقاطا للصراع الداخلي والإجابات التي نهرب منها، من أنا بداية الانتقال من رغبات مادية و دوافع بدائية وأحلام متكسرة إلى النضج والاستنارة والعطاء والسلام، من أنا هو سؤال صعب ومجهد، لا يبرر ألمه إلا الوصول إلى الإجابات المتجددة، ودونه تصبح الحياة نصف حياة والروح فارغة والآلام محبطة والجهد حرثا في الماء والسعادة سرابًا متجددا. من أنا هو سؤال البداية الذي يصبح عند النهاية من كنت وماذا جنيت، من انا هو قيامتك الشخصية، هو سؤال لن تجني بالهروب منه إلا المزيد من الإحباط والتوترات المتجددة التي لا حكمة من حدوثها إلا أن تعلمك أن تتعلم من أنا.