543 عاما مضت على بنائه، بهيٌ فخم، يتوسط ورقة الخمسين جنيها ذات اللون الأحمر، مسجد له من الهيبة الكثير، وفي أسفله من اليسار يظهر ما يبدو أنه دكان صغير، ذلك الدكان موجود في مكانه أسفل مسجد قجماس الأسحاقي أو جامع أبو حريبة في حي الدرب الأحمر منذ أكثر من قرنين من الزمان، يحمل في جنباته تاريخ مهنة "الإسكافي" في مصر، حيث يتجه الناس لإصلاح أحذيتهم هناك، في ذلك المكان الذي تفوح منه رائحة التاريخ وعبقه
تحمل حوائطه وأبوابه ملايين الحكايات التي رواها أصحابها بينما ينتظرون إصلاح أحذيتهم، حكايات يحفظها ذلك المحل الصغير الذي تحمل صورته في جيبك دون أن تدرك؛ توارثته عائلة واحدة، كان آخرهم «عم هشام» الذي سينتهي عنده هذا الخط التاريخي لعدم إنجابه أو وجود من يرثه.
على بُعد خطوات من أبواب المحل، يجلس الرجل الستيني بين جنبات دكانه، منكبا على إحدى أدوات خياطة الأجهزة، يعمل على إصلاح الأحذية والحقائب من زبائنه، منهم من اعتاد على زيارته دائما، وآخرون يدخلون لدكانه لأول مرة، ويسمعون منه حكايات ذلك الإرث الكبير بالنسبة له لن يرثه بعده أحد، فبعد الأجيال المتعاقبة خلال 200 عام لن يجلس أحد بدكانه، فهو لم ينجب، لانشغاله بإعالة والدته وشقيقه المريض
يتحدث هشام صلاح مالك المحل "لصدي البلد "أن ملكية عائلته له تعود لما يقرب من 200 عام، تتوارثه العائلة من الجد الأكبر، والكل يعمل في المهنة ذاتها وهي إصلاح الأحذية، "جدي ورث المحل عن أبوه، وكان برضو شغال في تصليح الأحذية والشنط، والمهنة دي بتتوارثها الرجالة في عليتنا، جدي فضل شغال في المحل 70 سنة لحد ما اتوفى، وأبويا كمل المسيرة بعده
في سن الـ10، بدأت رحلة "هشام" مع المحل الأثري، حين نزل رفقة والده لتعلم مهنة العائلة، وتعلم المهنة سريعا حتى أتقنها، و أضاف هشام "والدي اتوفى بعد ما اشتغل في المحل أكثر من 60 سنة، وكملت أنا مسيرة الشغل في المحل لوحدي، لحد ما بقي جزء مني، مبقدرش ييجي يوم ومنزلش المحل أو مقعدش فيه، حتى لو حاسس الدنيا مفيش فيها شغل لازم أنزل برضو
معلومات أثرية وتاريخية كثيرة تعلمها " هشام"عن المسجد، من الزوار الذين يأتون خصيصا لزيارة محله والتقاط الصور فيه، "باقي سائحين عرب وأجانب بييجوا يتفرجوا على المحل ويتصورا فيه مع الـ50 جنيه وبيتصوروا معايا، كمان طلاب من بتوع التاريخ والآثار وبيقعدوا معايا يشرحولي تاريخ الآثار والمسجد وحكايته، لحد ما حفظت معلومات كثيرة زي تاريخ تأسيس المسجد، والعصر اللي اتبنى فيه وبعض التفاصيل عن طريقة البناء"، وفقا لحديث "هشام
يذكر أن مسجد "قجماس الأسحاقى" أو "مسجد أبو حريبة" تم بناؤه على الطراز المملوكي، عام 1480 ميلاديا، على يد الأمير سيف الدين قجماس الإسحاقي أحد أمراء المماليك، وعلى غير المعتاد لم يُدفن في المقبرة التي بناها لنفسه تحت قبة المسجد، ولكنه دُفن في الشام، أما قبة المسجد فدُفن بها أحد أولياء الله الصالحين وهو الشيخ أحمد الشنتناوي الصوفي الذي لقب بـ "أبو حربية" والذي توفي سنة 1268 ميلاديا، واشتهر الجامع لدى العامة باسم جامع أبو حريبة نسبة إلى هذا الشيخ، وفقا لكتاب الخطط التوفيقية.
المسجد ذو طراز بنائي فريد، بُني مرتفعا عن مستوى الطريق، ويشغل الجزء السفلي من واجهته ببعض المحال، وهو مزين بالرخام الملون الجميل، على يمينه ويساره نقوش مكتوب عليها آية قرآنية وتاريخ الانتهاء من بنائه 886 هجرية، وله باب مكسو بالنحاس المزخرف بأشكال هندسية، وإلى يمينه منارة ذات 3 طبقات: الأولى مثمنة والثانية أسطوانية والعلوية مكونة من أعمدة رخامية تحمل الخوذة، وإلى يسار الصاعد إلى المدخل يقوم السبيل الذي يعلوه كُتاب، أما القبة التي تعلو الضريح الواقع خلف المدخل فبسيطة المظهر من الخارج على عكس مثيلاتها المنشأة في هذا العصر
منذ نحو نصف قرن، حين كان طفلا لا يتعدى عمره الأعوام العشرة، ينزل "هشام" من منزله ليقضي بين جدران المحل وفي رحابه أكثر من نصف يومه، 12 ساعة من الصباح إلى المساء يجلسها هناك حتى تعلم المهنة من والده وشربها وورثها منه مع المحل العتيق، ولم ينقطع عن الذهاب إلى محله يوميا وقضاء تلك الساعات الطويلة هناك إلا للضرورة القصوى، لا يخرج منه إلا من أجل قضاء فرائضه وصلواته في المسجد الأثري الذي بات يعرفه جيدا عن ظهر قلب ويعرف تاريخ كل قطعة أثرية فيه ودلالة كلركن بداخله ومعنى كلمة على جدرانه
قضى الرجل الستيني فترة شبابه في عمله بالمحل لم يفكر في الزواج، حيث كان يتولى مسؤولية رعاية والدته وشقيقه الذي يعاني من ضمور العضلات، ورعاية بنات شقيقه الذي توفي منذ سنوات «فجاة لقيت الدنيا جريت بيا ومتجوزتش، وخلاص مش هيبقي في حد بعدي من العائلة يجي يفتح المحل، اللي فاضل من العائلة بنات أخويا وخلاص هيتجوزوا"
و اختتم كلامه أن المحل جوة الخمسين جنية جوة مسجد ابو حريبة