يعد وزير الدفاع لويد أوستن أحد أكثر رؤساء البنتاجون عزلة في الذاكرة الحديثة، وهذا يخلق مشكلة كبيرة بالنسبة له الآن، بل وقد يتسبب ذلك في فقدانه لمنصبه، وذلك في ظل أزمة كبرى أصبحت حديث الشارع الأمريكي خلال الأيام الماضية، في ظل قواعد صارمة تحكم المناسب العليا، فلا يحق لصاحب المنصب أن يكون خارج الدائرة العامة إلا وفق قواعد وإجراءات محددة، فما بالنا بمنصب حساس مثل قائد أكبر جيوش العالم، ومن هنا جاء الصخب عن أوستن، حيث أصبح السؤال المتداول داخل أروقة المؤسسات السياسية ودوائر صنع القرار الأمريكية، "كيف يغيب لعدة أيام عن عمله دون معرفة أحد؟.
فقد أدى فشل أوستن في إبلاغ كبار مستشاريه وقادة الكونجرس وحتى الرئيس جو بايدن بدخوله المستشفى الأسبوع الماضي بسبب مضاعفات إجراء طبي إلى جدل ترك كبار المسؤولين في البيت الأبيض والبنتاغون غاضبين ومربكين، وسرعان ما دعا بعض الجمهوريين إلى إجراء تحقيقات أو حتى تأديب أو طرد أوستن، وهنا نرصد تفاصيل القصة الكاملة لتلك الأزمة المشتعلة في واشنطن.
غياب غامض يثير الجدل
وبحسب تقرير مفصل نشرته صحيفة بوليتيكو الأمريكية، فإن الأزمة تجرع أن وزير الدفاع الأمريكي، دخل إلى إحدى مستشفيات أمريكا يوم الاثنين الماضي، ورغم ذلك لم يتم إبلاغ رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال سي كيو براون بوضع أوستن حتى يوم الثلاثاء، أي اليوم التالي لدخوله المستشفى، حسبما صرح مسؤول كبير بوزارة الدفاع لصحيفة بوليتيكو الأمريكية يوم الأحد، وحتى نائبة وزير الدفاع كاثلين هيكس، التي تولت بعض واجباته أثناء وجوده في المستشفى، لم تعرف مكان وجوده حتى يوم الخميس، حسبما قال مسؤول كبير آخر في وزارة الدفاع بعد أن نشرت شبكة سي إن إن الأخبار لأول مرة.
وقال أحد كبار المسؤولين الأميركيين: "إحساسي هو رغبته في التزام الخصوصية فيما يتعلق بإجراء طبي روتيني أدى إلى نتائج عكسية عندما لم تسر الأمور كما هو مخطط لها، وإنه مخلص للغاية وملتزم بالواجب، ولكن الأمر كله غريب للغاية"، ولكن الأزمة فتح النقاش حول طبيعته الشخصية، وأعطت المساحة لأطراف الصراع السياسي داخل أمريكا لبدء معارك حول تقييم هذا الموقف، وفقا للقواعد الرسمية الحاكمة لتلك الظروف.
معروف بأنه انطوائي
ووفقا للصحيفة الأمريكية، يقول المسؤولون الأمريكيون السابقون والحاليون الذين عملوا مع أوستن إنه معروف بأنه انطوائي، ويتجنب الكاميرات ويحتفظ فقط بعدد قليل من المقربين خلال مسيرته العسكرية التي استمرت لعقود، وباعتباره الجنرال ذو الأربع نجوم الذي يشرف على القيادة المركزية الأمريكية أثناء الانسحاب من العراق، فإنه نادرا ما عقد مؤتمرات صحفية كوزير للدفاع، وعلى النقيض من أسلافه، فهو لا يأخذ سوى عدد قليل من وسائل الإعلام في الرحلات الرسمية، ولم يعقد مؤتمرا صحفيا في البنتاغون منذ يوليو الماضي، على الرغم من أنه يطلع الصحافة بشكل منتظم خلال رحلاته.
ويستند هذا المقال إلى محادثات مع ثمانية مسؤولين أمريكيين حاليين ومسؤول كبير سابق في وزارة الدفاع، وقد تم منح معظمهم عدم الكشف عن هويتهم من قبل الصحيفة الأمريكية، لمناقشة وجهات النظر الداخلية، وهو الأمر الذي أصحب معتادا في الصحافة الأمريكية عند مناقشة ملفات تخص الأمور العسكرية، أو ذات الجدل والخلاف الكبير بدوائر صنع القرار.
البيت الأبيض لا يعلم شيئا
لمدة ثلاثة أيام، لم يكن حتى البيت الأبيض على علم بدخول أوستن إلى المستشفى. وأخطر مسؤولو وزارة الدفاع كبار المدنيين والقادة العسكريين في البنتاغون قبل ساعتين فقط من الكشف العلني مساء الجمعة، تم إبلاغ الكونجرس قبل 15 دقيقة فقط من صدور الإعلان، وقال مسؤول كبير في الإدارة إن المرة الأولى التي تحدث فيها أوستن وبايدن منذ دخول الوزير المستشفى يوم الاثنين كانت مساء السبت، حتى مع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط واشتداد الحرب في أوكرانيا، وجاءت المحادثة بعد تقارير، تفيد بأن رئيس البنتاغون انتظر ثلاثة أيام لإبلاغ البيت الأبيض بأنه خارج الخدمة.
ويقول البنتاغون إن التأخير في إخطار كبار مسؤولي الإدارة بشأن دخول أوستن إلى المستشفى يرجع جزئيًا إلى حقيقة أن رئيسة أركانه كانت أيضًا خارجة بسبب مرضها في نفس الوقت، بينما دخل أوستن مركز والتر ريد الطبي العسكري الوطني في الأول من يناير، ولم يتم إخبار رئيسة أركان وزارة الدفاع كيلي ماغسامين نائبة وزير الدفاع كاثلين هيكس - التي تولت أحيانًا واجبات رئيسها - أو البيت الأبيض بوضع الوزيرة حتى الرابع من يناير.
مبررات واهية للغموض
وما زاد الأزمة اشتعالا هي المبررات الواهية التي خرجت بها المؤسسة العسكرية لتبرير موقف وزيرهم، فقد خرج الميجور جنرال بات رايدر، كبير المتحدثين باسم وزارة الدفاع، وقال "لم يتمكن كبير موظفي الوزير من تقديم الإخطارات قبل ذلك الوقت، وأنه تم تقديم تلك الإخطارات يوم الخميس إلى نائب الوزير ومستشار الأمن القومي"، ولكن لم يفسر هذا الكشف القصة الكاملة لانقطاع الاتصالات، أو سبب عدم إخطار البيت الأبيض، وتم إبلاغ الجنرال سي كيو براون، رئيس هيئة الأركان المشتركة، بحالة أوستن يوم الثلاثاء ولكن يبدو أنه لم يخبر أحداً، فلدى أوستن أيضًا مساعدون آخرون كان بإمكانهم إبلاغ المسؤولين المعنيين في غياب ماغسامين.
فيما قال مسؤول كبير سابق في وزارة الدفاع، طلب عدم الكشف عن هويته لمناقشة مسألة حساسة: "هذا ليس له أي معنى، وهذا يعني فعليًا أنه بدون رئيس الأركان، لن يتمكن فريق أوستن من التواصل مع بقية الإدارة"، فميا قال مسؤول كبير في الإدارة: "بايدن يتمنى التوفيق لأوستن في تعافيه ويتطلع إلى رؤية الوزير يعود إلى العمل قريبًا"، وهي تصريحات شكلية لا تعكس حجم النقاش الذي دار حول تلك النقطة بين بايدن ووزيره.
لا يفكر بالاستقالة ومازال بالمستشفى.. ولكن الضغوط مستمرة
وعن موقف الوزير بعدد تلك الأزمة، قال رايدر إن أوستن استأنف مهامه الكاملة يوم الجمعة، وعلى الرغم من انتقادات مسؤولي الإدارة والجمهوريين ووسائل الإعلام، فإنه لا يفكر في الاستقالة من منصبه، ومنذ استئنافه لمهامه، أوضح رايدر، أن أوستن تلقى تحديثات تشغيلية، وقدم التوجيه لفريقه ولديه حق الوصول الكامل إلى الاتصالات الآمنة، وما ما يشير إلى أن أوستن يتعافى بشكل جيد وفي حالة معنوية جيدة، ولكن في نفس الوقت لم يقدم رايدر أي تحديث حول موعد خروج أوستن من المستشفى، وأوضح: "على الرغم من أنه ليس لدينا تاريخ محدد لخرجوه في هذا الوقت، إلا أننا سنواصل تقديم التحديثات حول وضع الوزير عندما تصبح متاحة".
وبحسب الصحيفة الأمريكية، تبدو وظيفة أوستن آمنة - على الأقل في الوقت الحالي، ولكن الضغوط تتزايد داخل الإدارة وفي الكابيتول هيل حتى يفقد شخص ما وظيفته، وقال المسؤول الثاني الكبير في وزارة الدفاع: "هذا هو السلوك الأساسي، نوع من السلوك التابع، 101، وكان وزير الدفاع تابعًا للقائد الأعلى وقد فشل".
تقصيرًا في أداء الواجب ... هجوم كاسح
وتعرض وزير الدفاع على مدار الساعات الماضية لهجوم كاسح، فقد انتقد السيناتور عن ولاية ميسيسيبي روجر ويكر، أكبر جمهوري في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، قرار إبقاء الإقامة في مستشفى أوستن سرية، ووصفه بأنه "تحدي صادم للقانون"، وقال نائب الرئيس السابق مايك بنس لشبكةCNN يوم الأحد إن تصرفات أوستن كانت تقصيرًا في أداء الواجب.
والمخاوف بشأن غياب أوستن هي مخاوف بين الحزبين، فعلى الرغم من أن معظم أعضاء حزب بايدن إما دافعوا عن أوستن أو امتنعوا عن التعليق عليه، إلا أن كبير الديمقراطيين في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب تعاون مع نظيره في الحزب الجمهوري لحث رئيس البنتاغون على تقديم المزيد من المعلومات، وفي بيان مشترك يوم الأحد، قال رئيس القوات المسلحة مايك روجرز (الجمهوري من علاء) والديمقراطي البارز آدم سميث إن لديهما مخاوف بشأن التأخير في الكشف عن دخول أوستن إلى المستشفى.
رغم الملف الصحي الغامض.. طبيعته سبب الاحتفاظ به
وتحدث الكثير من المشرعين بأمريكا عن الحالة الصحية الغامضة لوزير الدفاع، حيث لا تزال هناك العديد من الأسئلة دون إجابة بما في ذلك الإجراء الطبي والمضاعفات الناتجة، وما هي الحالة الصحية الحالية للوزير، وكيف ومتى تم تفويض مسؤوليات الوزير، وسبب التأخير في إخطار الرئيس والكونغرس، وأضافوا أن "الشفافية مهمة للغاية، ثانيا يجب على أوستن تقديم هذه التفاصيل الإضافية حول صحته وعملية اتخاذ القرار التي حدثت في الأسبوع الماضي في أقرب وقت ممكن.
ولكن يجب الإشارة إلى أن كبار المسؤولين في البيت الأبيض يتمتعون بعلاقة عمل وثيقة مع أوستن، فبعد أن أمر بايدن بالانسحاب من أفغانستان، وهو ما عارضه المسؤولون العسكريون، أخبرهم أوستن بعدم الشكوى في الأماكن العامة وتنفيذ الأمر، ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، ينسب العديد من كبار مساعدي الإدارة إلى أوستن الفضل في إقناع الدول الغربية بتسليم أسلحة متقدمة إلى كييف، ويحب البيت الأبيض، وبايدن على وجه الخصوص، أن يحتفظ أوستن بآرائه في الاجتماعات الخاصة ولا يخوض معركة بالسكاكين في وسائل الإعلام مثل بعض قادة الدفاع السابقين.
ولا يزال بايدن غاضبًا من رؤساء البنتاغون والقادة العسكريين السابقين الذين اشتكوا علنًا من أن الرئيس السابق باراك أوباما لن يرسل قوات كافية لهزيمة تنظيم القاعدة في أفغانستان، وكذلك لا يزال بايدن يشعر أن زيادة أوباما في عدد القوات التي أرسلها أوباما للحرب على الإرهاب ترجع جزئيا إلى تسريب البنتاغون للتقييمات والحد من مساحة صنع القرار في البيت الأبيض، وقال مسؤول كبير في وزارة الدفاع إن ولاء أوستن وطبيعته الصريحة يضمنان أنه عندما يلزم الحفاظ على سر ما، "فإنك تحفظه إلى حد كبير"، ولكنه يمكن أن يسبب مشاكل أيضًا لأن الوزير قد لا يحصل على "مجموعة كاملة من المدخلات" التي يحتاجها لتقديم أفضل نصيحة للرئيس.