تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد واحدة من الأحكام التي يبحث الكثيرون عنها، ومن خلال المؤسسات الدينية وآراء الفقهاء والمذاهب الفقهية نوضح حكم تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد.
تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد
قالت دار الإفتاء إن تهنئة إخواننا من المسيحيين بأعياد رأس السنة الميلادية ومبادلتهم الفرحة لا حرج فيها شرعًا، بل إنَّ ذلك من الإحسان المأمور به، ويُعَد ضمنَ مظاهره، وفيها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث عاش في نسيج مجتمعي مختلف الديانات حياة اجتماعية قوية امتزجت فيها مظاهر الإحسان والتعاون ومشاعر البر والمواساة وحسن الصلة، بالإضافة إلى إقرارهم على مناسباتهم وأعيادهم باعتبار ذلك من المشترك الإنساني على المستوى الثقافي والاجتماعي، وتبعه الصحابة الكرام رضي الله عنهم على ذلك.
وتابعت: لم يكن من شأن المسلمين أن يتقصَّدوا مخالفة أعراف الناس في البلدان التي دخلها الإسلام، وإنما سعوا إلى الجمع بين التعايش والاندماج مع أهل تلك البلاد، مع الحفاظ على الهوية الدينية. بل لَمَّا كان الاعتدال الربيعي يوافق صوم المسيحيين، جرت عادة المصريين على أن يكون الاحتفال به فور انتهاء المسيحيين من صومهم؛ وذلك ترسيخًا لمعنًى مهم؛ يتلخص في أن هذه المناسبة إنما تكتمل فرحة الاحتفال بها بروح المجتمع الوطني ذي النسيج الواحد.
[[system-code:ad:autoads]]
وهذا معنًى إنسانيٌّ راقٍ أفرزته التجربة المصرية في التعايش بين أصحاب الأديان والتأكيد على المشترك الإنساني الذي يقوي روابط التعارف والتواصل بين بني الإنسان، وهو لا يتناقض بحال مع الشرع، بل هو ترجمة للحضارة الإسلامية الراقية، وقِيَمِها النبيلة السمحة.
ولفتت إلى أن الأعياد أيام تُتَّخَذُ لإظهار السرور والفرحة، وللأعياد الدينية أبعاد اجتماعية واقتصادية نافعة، وتزداد فيها هذه الجوانب قوّةً كلما قويَتْ أواصر المجتمع، وتلاحمت روابطه، وتآخت طوائفه، وزاد المشترك بين أفراده وجماعاته، فيحصل التشارك المجتمعي بل الإنساني العام الذي يتناسى أصولها الدينية وفوارقها العقائدية، واختلافُ فتاوى العلماء في المشاركة في أعياد غير المسلمين راجع إلى أنَّ هذه الأعياد يتجاذبها البعدان الديني والاجتماعي قوةً وضعفًا؛ خاصة مع تزامن فتاواهم والحروب الصليبية، ومع غلبة الطابع الديني على النزاعات والحروب الدولية، ومع زيادة التعصب الديني وضعف المشاركة المجتمعية في كثير من الأحايين؛ مما قوَّى عند جماعة من الفقهاء حينذاك الأخذ بمسلك سد الذرائع؛ حفاظًا على تماسك الدولة الإسلامية أمام العدوان المتعصب الذي يلبس لباس الدين زورًا وبهتانًا، وهذا غير حاصلٍ في زماننا الآن.
ولذلك بنى المحققون من الفقهاء جواز مشاركة غير المسلمين في أعيادهم على تناسي الفوارق الدينية فيها، وعلى انعدام قصد التشبه بهم فيما خالف الإسلام من عقائدهم، وعلى غلبة المعنى الاجتماعي وقوة المشترك الإنساني في مظاهر الاحتفال، وعلى استغلال هذه المواسم في فعل الخير وصلة الأرحام والمنافع الاقتصادية، وبنوا الجواز كذلك على خلوص القصد في المشاركة المجتمعية المحضة، وقرروا أن صورة المشابهة لا تضرّ خاصةً إذا تعلق بها صلاح العباد؛ كما في "رد المحتار على الدر المختار" للعلامة ابن عابدين (1/ 624، ط. دار الفكر)، و"سنن المهتدين" للعلامة الموَّاق (ص: 249، ط. مؤسسة الشيخ زايد)، و"شرح مختصر خليل" للعلامة الزرقاني (1/ 320، ط. دار الكتب العلمية).
الأدلة على جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم
عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نسيج مجتمعي مختلف الديانات حياةً اجتماعيةً قوية، امتزجت فيها مظاهر الإحسان والتعاون، ومشاعر البر والمواساة، وحسن الصلة والضيافة، وعيادة المرضى، والمجاملة، والاحترام المتبادل، بالإضافة إلى إقرار الناس على مناسباتهم وأعيادهم؛ باعتبار ذلك من المشترك الإنساني على المستوى الثقافي والاجتماعي، وبيان حاجتهم إليها؛ حيث جرت أعراف كل قوم على أنَّ لهم أعيادًا يفرحون فيها ويروِّحون عن نفوسهم؛ فروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها يومَ فطرٍ أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت الأنصارُ يومَ بُعَاث، فقال أبو بكر رضي الله عنه: مزمار الشيطان؟ مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا اليَوْمُ». وفي لفظ في "الصحيحين": «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ»، وفي لفظ لأبي عوانة في "مستخرجه على صحيح مسلم" بلفظ: «دَعْهُمَا؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدٌ».
كما أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الأحباشَ في احتفالهم على لعبهم وحركاتهم بطريقتهم الخاصة التي لا يعرفها العرب، وكان هذا في المسجد، فلم يمنع فرحتهم، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم بَيَّنَ للمعترضين على ذلك سماحة الإسلام ورحابته، ومراعاته لاحتياجات النفس البشرية من الترويح وإعلان الفرح في المناسبات المختلفة؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً؛ إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» رواه أحمد في "مسنده" من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وتبعه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على ذلك، مُرَاعين في ذلك أعراف الناس ومناسباتهم في مجتمعاتهم، حتى ورد عن بعض كبار الصحابة شهود الأعياد والاحتفالات المختلفة، وقبول الهدايا فيها، والتوسعة على مَنْ حولهم بتفريق بعض من هذه الهدايا، مستمتعين بمشاركة غيرهم في أجواء البهجة والسرور، والفرح بالمباحات التي يُثَاب الإنسان على النية الصالحة فيها، كالتمتع بالطيبات، والأكل من الأطعمة الـمُعَدَّة فيها، مستحسنين لها بلا أدنى حرج، كل ذلك في إطار الودّ والمحبة الذي هو خُلُقٌ إسلامي عظيم، ليبرزوا بقوة المعنى الحقيقي لمفهوم الأخوة الإنسانية، حيث يرتبط البشر من خلاله بعلاقة مميزة يكون قوامها الرحمة والإحسان والاحترام.
فأخرج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (15/ 447-448، ط. دار الغرب الإسلامي): [أنَّ النعمان بن المرزبان- وهو جد الإمام أبي حنيفة- هو الذي أهدى لعلي بن أبي طالب عليه السلام الفالوذج في يوم النيروز، فقال: "نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمٍ"، وقيل: كان ذلك في المهرجان، فقال: "مَهْرِجُونَا كل يوم". والنيروز: لفظ فارسي مُعرَّب؛ معناه: اليوم الجديد، وهو عيد رأس السنة عند الفرس، ويصادف أول فصل الربيع] اهـ.
ولَمَّا هَمَّ الصحابة رضي الله عنهم بوضع تأريخ يؤرخون به الوقائع والأحداث عدوا ذلك من أحوال الاجتماع البشري، فنظروا إلى الحوادث الكبرى التي أثرت في تاريخ البشرية؛ كتأريخ الروم، وتأريخ الفرس، دون أن يلتفتوا إلى موافقة أصولها للعقيدة الإسلامية أو مخالفتها.
وعبارة سيدنا علي رضي الله عنه: "نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمٍ" حين قدمت له الحلوى بمناسبة النيروز، تؤكد على انفتاح الإسلام على الثقافات الأخرى والموروثات القومية في أبعادها الإيجابية، واقتران هذا العيد بالربيع والطبيعة، وتقاليده في التزاور، وتقديم الهدايا، وتنظيف الدور والمدن، وإشاعة المحبة والوئام والتسامح بين الناس، وكلها فِعَالٌ حسنة، وسلوك يتَّسِقُ مع المنهج الإسلامي الأصيل.
وذكر العلامة الزمخشري في "ربيع الأبرار ونصوص الأخيار" (5/ 325، ط. مؤسسة الأعلمي) قال: [أهدى معاوية إلى سعيد بن العاص يوم النيروز كسًى كثيرة، وآنيةَ ذهب وفضة. فقال للرسول : ما قَدَّرت لنفسك في طريقك فخذه، ثم فرَّق سائرها على أصحابه، ولم يأخذ إلا ثوبًا واحدًا] اهـ.
وقد كان الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه -والي مصر من قِبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- يخطب المصريين في كل عام ويحضّهم على الخروج والمشاركة في الاحتفال بـ"شم النسيم" باعتباره عيدًا قوميًّا -كما أخرجه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 165، ط. مكتبة الثقافة الدينية)، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (2/ 1004، ط. دار الغرب الإسلامي)-؛ وذلك بغض النظر عن المعتقدات الدينية التي قد ترتبط بهذه المناسبة في أذهان المحتفلين بها على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم؛ فقد كان معروفًا عند الأمم القديمة بأسماء مختلفة وإن اتحد المسمَّى؛ فكما احتفل قدماء المصريين بشم النسيم باسم "عيد شموس" أو "بعث الحياة": احتفل البابليون والآشوريون بـ"عيد ذبح الخروف"، واحتفل اليهود بـ"عيد الفصح" أو "الخروج"، واحتفل الرومان بـ"عيد القمر"، واحتفل الجرمان بـ"عيد إستر"، وهكذا.
المسيح رمز السلام
بينما يقول الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء، إن سيدنا رسول الله ﷺ كان يتعهد صحابته الكرام والأمة من بعدهم بالموعظة، وكان يتعهدهم برواية القصص، وكان يتعهدهم بتعاليم الشريعة الشريفة، وكان يتعهدهم بتربيتهم على الأخلاق الحميدة، وكان يتعهدهم بمواقفه التي لا تنسى.
وتابع: كان يتعهدهم بالموعظة، ومن الموعظة: ذِكْرُ القصة، وكان يريد أن يعلمنا أن أمة الله سبحانه وتعالى واحدة، من لدن آدم وإلى مبعث رسولنا الكريم، وإلى يوم القيامة، فكان يذكر لنا قصص الماضين؛ لأن أخلاقهم ينبغي أن نتعلم منها أخلاقنا، ولأن شريعتهم في ما اختصوا به تناسبت مع أزمانهم، أما في أخلاقهم فإنها تعبر الزمان والمكان، وتكون في كل الأحوال لجميع الأشخاص.
رسول الله ﷺ أشعرنا أننا لسنا في صدامٍ مع العالم، وأننا لسنا في صدامٍ مع أحد، وأننا نفتح قلوبنا وأيدينا للناس من حولنا؛ لأن هؤلاء هم عملاؤنا، هم الذين نعمل عليهم، حتى يهديهم الله سبحانه وتعالى على أيدينا.
كان رسول الله ﷺ يقول: «لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك مِمَّا طلعت عليه الشمس وما غربت».
والتاجر يحافظ على عملائه؛ ولذلك فالمسلم يحافظ على كل الخلق، لأن كل الخلق إنما هم من عملائه الذين يريدُ أن تصل إليهم كلمة الله. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}. وكان مِمَّا ذكر من قصصٍ كثيرة، فاقت أكثر من خمسين حديثًا، يذكر فيها رسول الله ﷺ قصصَ السابقين؛ حتى نستفيد منها.
فيما أخرجه البخاري وأحمد، قال رسول الله ﷺ: «لم يتكلم في المهد إِلَّا ثلاثة: عيسى ابن مريم، ورجلٌ من بني إسرائيل كان يُدْعَى: جُرَيْج».
وقال علي جمعة: عيسى بن مريم، لم يقف عنده رسول الله ﷺ كثيرًا؛ لأن قصته مذكورةٌ في القرآن، ذلك الذي كان يوم مولده -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يوم سلام، {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} ، هذا اليوم الذي ذُكِرَ في القرآن؛ استبشارًا بكلمة الله، نور الأنوار، وسر الأسرار، سيدنا عيسى الذي اختلف عليه البشر؛ منهم: مَنْ كَذَّب واتهم، ومنهم: مَنْ غالى فعبد، ومنهم: مَنْ عرفَ الحقَّ فآمن.
وسيدنا عيسى : حبيب الرحمن، وهو نبيٌّ من أنبيائنا؛ ولذلك فَمَنْ أنكره، أو تطاول عليه فقد كفر، كفر كفرًا ينقله عن الملة، كفر كفرًا لم يبقه بعد ذلك مسلمًا، وسيدنا عيسى أيضا: كان مُبَرَّئًا من كل عيبٍ ونقصٍ وشينٍ، لم يفعل شيئًا في حياته إِلَّا وقد رَضِيَ اللهُ عنه.
ولذلك نرى الإمام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»: يُكْثِرُ من ذِكْرِ عيسى، ومن ذِكْرِ قصصه، ومن ذِكْرِ أخلاقه، ومن ذِكْرِ مواقفه، برواياتٍ هي من روايات المسلمين، فيعلي من شأنه، ويتعلم منه. أكثر جدًّا في «الإحياء» من ذِكْرِ سيدنا عيسى.
كما أن عيسى ابن مريم، نعم، نطق في المهد، والنطق في المهد: معجزة تلفت الأنظار، وترقق القلوب؛ فإن الله أجرى العادة في بني البشر: أَلَّا ينطق الطفل الرضيع في مهده، موضحا فسبحانه وتعالى لم يجعل النطق من شأن الأطفال، بل جعل النطق من شأن مَنْ يستطيع أن يفكر، وأن يرتب المقدمات للوصول إلى النتائج، ولذلك لَمَّا ترجم المسلمون هذا العلم من أرسطو، أسموه بعلم المنطق؛ لأنه علمٌ يحفظ الذهن عن الخطأِ، كما يحفظ النحو اللسانَ عن الخطأِ.