ماذا دعا الرسول وقت الحصار على المسلمين؟، لعله بوابة النجاة لأهلنا في فلسطين وغزة المحاصرين بيد العدو الإسرائيلي ، والذي زاد بطشه ونزعت منه كل معاني الرحمة، وفرض حصاره على مستشفى القدس في غزة، بما جعل الوضع مأساوي بالمستشفى، ولعل مرور أكثر من عشرة أيام على حصارهم ومنع الإمدادات الطبية والإنسانية من الوصول إلى المستشفى، جعل البحث عن طريقة لفك هذا الحصار من خلال الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن ثم البحث عن ماذا دعا الرسول وقت الحصار على المسلمين؟، باعتباره ضرورة ملحة تزبد أهميته كل لحظة مع استمرار القصف الإسرائيلي في محيط المستشفى وفتح النار على من فيه، وانقطاع التيار الكهربائي بشكل كامل ونفاد الماء والطعام للمرضى، وبالتالي استحالة الاستمرار في تقديم الرعاية الطبية اللازمة في ظل هذه الظروف، حيث إن مستشفى القدس في قطاع غزة محاصر بالدبابات الإسرائيلية من جميع الجهات، ما يحول دون إجلاء الموجودين في المستشفى، لذا فإنهم بحاجة لتدخل إلهي كما حدث من قبل في الحصار على النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ، ففي ماذا دعا الرسول وقت الحصار على المسلمين؟، فرصة لفك الحصار وإنهاء هذه المأساة.
ماذا دعا الرسول وقت الحصار
ورد عن ماذا دعا الرسول وقت الحصار على المسلمين؟، أنه ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب على المشركين فقال: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم.
وجاء في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، قال: نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، قال: فضرب الله عز وجل وجوه أعدائنا بالريح، فهزمهم الله عز وجل بالريح.
الحصار على رسول الله والمسلمين
ورد أن الأحزاب: جمع حِزب، والمراد بهم: القبائل الذين اجتمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة القضاء على الإسلام والمسلمين، فيما عُرِف في السيرة النبوية بغزوة الأحزاب أوِ الخندق، ففي السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وبعد إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة المنورة، أصابهم حِقْد كبير، إضافة إلى حقدهم بسبب حسدهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فراحوا يحرِّضون كفار قريش والقبائل على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقولون لهم نحن معكم، واليهود والمنافقون الذين في المدينة معكم، حتى أقنعوهم بذلك، واجتمع من الأحزاب اثنا عشر ألف مقاتل، وتوجهوا إلى المدينة وحاصروها، والمسلمون حينئذ في حال شديدة من جوعٍ شديد، وبردٍ قارص، وعددٍ قليل، وأعداء كُثر..
وقد وصف الله عز وجل موقف الأحزاب وحصارهم للمدينة المنورة، وموقف المؤمنين من ذلك بقوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. قال الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين لما رأوا الأحزاب يعني جنود الكفار الذين جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، في غزوة الخندق، قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله. وقال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب 11:10].
وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين، في صرفه أعداءهم وهزْمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزَّبوا، وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح. هزيمة الأحزاب: حين اشتد الحصار على المسلمين، وعظُم الكرب عليهم، دعا النبي صلي الله عليه وسلم علي الأحزاب، فاستجاب الله عز وجل دعاءه، فهبت ريح شديدة عليهم، فقلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وزلزلت نفوسهم، وأوقعت الرعب في قلوبهم، ونزلت الملائكة الكرام لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وفي ذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب:9].
قال ابن كثير: ولولا أن جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، ولكن قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فسلط عليهم هواء فرَّق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من الهوى، وهم أخلاط من قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسَب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرَّق جماعتهم، وردَّهم خائبين خاسرين بغيظهم، لم ينالوا خيراً لا في الدنيا، مما كان في أنفسهم من الظفر (النصر) والمغنم، ولا في الآخرة بما تحمَّلوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال جيشه، وَمَنْ هَمَّ بشيء، وَصَدَّقَ هَمَّهُ بفعله، فهو في الحقيقة كفاعله.
دعاء الرسول في الحصار
وروي عــن عبد الله بن أبي أوْفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب على المشركين فقال: «اللهم منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» (رواه البخاري). قال القاضي عياض: فيه جواز الدعاء على المشركين والانتصار به على العدو.
وقال ابن حجر: وفيه التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث، فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام، وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق، وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين، وكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظتهما فأبقهما.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قُلنا يوم الخندق لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل مِن شيءٍ نقولُهُ؟ فقد بلغتِ القلوبُ الحَناجر! قال صلى الله عليه وسلم: «نعَمْ، اللَّهمَّ استُر عَوراتِنا، وآمِن روعاتِنا»، قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالرِّيح، وهزمَهُمُ اللَّه بالرِّيح) (رواه أحمد وحسنه الألباني).
وورد عند البيهقي في الدلائل: بعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفأته، وحملت قريش أمتعتها وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَت عادٌ بالدبور» (رواه البخاري). قال ابن حجر: الصَبا: بفتح الصاد: هي الريح الشرقية، ويقال لها القبول، لأنها تقابل باب الكعبة إذ مهبها من مشرق الشمس، وضدها الدبور، وهي التي أهلكت بها قوم عاد، ومن لطيف المناسبة كون القبول نصرت أهل القبول، وكون الدبور أهلكت أهل الإدبار.
و قال الصنعاني: «نُصِرُت بالصبا»: يحتمل أنه أريد في يوم الأحزاب حيث قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيهمْ رِيحًا} [الأحزاب:9]، ويحتمل الأعمّ مِن ذلك. صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل (رجع) من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: «لا إله إلا الله وحد لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحد» ه» (رواه البخاري).
و قال القاضي عياض: وقوله: «وهزم الأحزاب وحده»: الظاهر أنه أراد بالأحزاب: قصة يوم الأحزاب خصوصاً، فيكون معنى(وحده): أن هزْمهم كان من قِبَله تعالى، وعلى غير أيدى البشر، كما قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَروْهَا} [الأحزاب:9]. وقيل: يحتمل أنه أراد به أحزاب الكفر فى سائر الأيام والمواطن. وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: «وهزم الأحزاب وحده» معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين، ولا بسبب من جهتهم، والمراد بالأحزاب الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. ما مِنْ مواجهةٍ بين الحق والباطل إلا ولله عز وجل فيها جنود لنصرة عباده المؤمنين، لا يعلمهم البشر ولا يرونهم، يسخرهم الله تعالى ـ إذا شاء ـ لتأييد ونصرة عباده المؤمنين، وهم جنود في السماء وجنود على الأرض.
و قال الله تعالى: {وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 7]، لا يعلم عُدّتهم مَلَكٌ مُقَرَّب، ولا نبي مُرْسَل، ولا أحد من الخَلق، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدَّثر:31]. قال السعدي في تفسيره: والواجب أن يُتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم {إِلاَّ هُوَ} فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك ولا ارتياب. والريح من جُنْدِ الله تعالى، وقد سلطها الله عز وجل بدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فانهزموا ولم يجدوا بُدّاً من الرجوع إلى مكة، وفكِّ حصارهم عن المدينة المنورة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «نصرت بالصَّبا (الريح)، وأُهْلِكَت عاد بالدبور».
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه مع إعدادنا للقوة كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، ينبغي علينا الاهتمام بالدعاء، فهو مطلوب في حال العافية والبلاء، وهو من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول السكينة والرضا، والنصر على الأعداء، والعافية من كل بلاء، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب من المشركين واليهود بقوله: «اللهم مُنزلَ الكتاب، ومُجريَ السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، وانصرنا عليهم» (رواه البخاري).
حصار قريش للمسلمين في شعب أبي طالب
حدث في العام الهجري : 6 ق هـ الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 616، لمَّا عَزمتْ قُريشٌ أنْ تَقتُلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أجمع بَنو عبدِ المُطَّلِبِ أمرَهم على أنْ يُدخِلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شِعبَهم ويَحموهُ فيه، فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه، قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الغَدِ يومَ النَّحْرِ، وهو بمِنًى: «نحن نازِلون غدًا بِخَيْفِ بني كِنانةَ؛ حيث تقاسموا على الكُفرِ» يعني ذلك المُحَصَّبَ.
وذلك أنَّ قُريشًا وكِنانةَ، تحالفتْ على بني هاشمٍ وبني عبدِ المُطَّلبِ، أو بني المُطَّلبِ: أنْ لا يُناكِحوهُم ولا يُبايِعوهُم، حتَّى يُسلِموا إليهِمُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فدخلوا الشِّعْبَ جميعًا مُسلِمهُم وكافِرهُم، وأجمعَ المشركون أمرَهُم على أنْ لا يُجالِسوهُم، ولا يُخالِطوهُم، ولا يُبايِعوهُم، ولا يَدخُلوا بُيوتَهم، حتَّى يُسلِموا رسولَ الله للقتلِ، وكتبوا في ذلك صَحيفةً، فلبِث بنو هاشمٍ في شِعبهِم ثلاثَ سِنينَ، واشتدَّ عليهِم البلاءُ والجهدُ والجوعُ، فلمَّا كان رأس ثلاثِ سِنينَ تَلاوَمَ رجالٌ من قُريشٍ على ما حدث وأجمعوا على نَقضِ الصَّحيفةِ، وهكذا انتهتْ المقاطعةُ.
فقد كان حصار أهل مكة الجائر للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من بني هاشم وبني المطلب في بداية المحرم سنة سبع من البعثة النبوية واستمر نحو ثلاث سنين، وقال ابن القيم في زاد المعاد: لما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد أجمعوا أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة... فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم؛ إلا أبا لهب فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين مضيقاً عليهم جداً مقطوعاً عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغ بهم الجهد... ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأنه أرسل إليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم؛ إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه فخرج إليهم فأخبرهم أن ابن أخيه قال كذا وكذا، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم عن ظلمنا، قالوا: أنصفت... فأنزلوا الصحيفة فلما رأوا الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ازدادوا كفراً وعناداً... وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب.
وذلك سنة عشر من بعثته صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك غير واحد من أهل السير، ويذكر أهل السير أنه بعد هذه الحادثة تعاقد نفر من عقلاء قريش على نقض هذه الصحيفة وسعوا في ذلك حتى حصل، وهؤلاء النفر هم: هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وزهير بن أبي أمية المخزومي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي.
حصار الرسول وأهله فى الشعب
روي أنه بعد اسلام حمزة وعمر رضى الله عنهما كان أبو طالب يراقب الموقف، ويرى أن قريشا لن تسكت على هذا الذي حدث، وكان يخشى أن أحدا من سفهاء قريش يتهور ويذهب لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحبه أكثر من أولاده؛ لذا لم يجد إلا حلا واحدا، قام أبو طالب بسرعة ودعا بني عبد مناف بشقيها بني هاشم وبني المطلب- المطلب هو عم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وطلب منهم أن يجتمعوا لحماية محمد صلى الله عليه وسلم، فأجاب جميع القوم مسلمهم وكافرهم حمية وقبلية وطاعة لكبيرهم أبي طالب، وبذلك انقسمت مكة إلى نصفين: بني عبد مناف في جهة، وبقية أهل مكة في جهة أخرى.
وقد اجتمع كفار قريش من جديد وخرجوا بفكرة جديدة في حرب الدعوة وهي المقاطعة، سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، سياسة التجويع الجماعي لبني عبد مناف، سواء كانوا مسلمين أو كفارا، ومع العلم أن هذا القانون الجديد يعتبر مخالفا لأعراف مكة وقوانينها السابقة، لكن لا توجد مشكلة في أن يتغير الدستور، فكل شيء بأيديهم، فلا يهم الشهر الحرام ولا البلد الحرام، المهم المصالح فهي ما يقدم على الأعراف والقوانين، فلا مبدأ، ولا قانون ولا حتى عهد يحترم، كتبوا قانون المقاطعة، وفيه: على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ألا يناكحوهم، أي: لا يتزوجوا منهم ولا يزوجهم، وألا يبايعوهم.
أي: لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، وألا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة؛ حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم للقتل، هكذا بمنتهى الوضوح.
وبدأ تنفيذ الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب ومعهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى يتجمعوا كلهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحموه من أهل مكة.
ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة والألم، فقد قطع الطعام تماما عن المحاصرين، فلا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي يأتي مكة من خارجها يشتريه الكفار بسعر عال؛ حتى لا تستطيع بنو عبد مناف شراءه، وأصبح الموقف صعبا، فقد أخذوا الأولاد والنساء في داخل الشعب؛ حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من الجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر، وظلوا كذلك ثلاث سنين كاملة! من محرم في السنة السابعة من البعثة إلى المحرم سنة عشر من البعثة، مأساة بشرية حقيقية.
واستمر على مدار ثلاث سنوات من الظلم والحصار الجماعي، صورة جاهلية تكررت كثيرا بعد ذلك في الدنيا، نعم اخترعها أهل قريش في ذلك الوقت، لكن للأسف حصلت كثيرا ودائما مع المسلمين، تكررت في العراق وفي ليبيا والسودان وأفغانستان والصومال وإيران ولبنان وفلسطين، كثير من المسلمين يحاصرون في بقاع الأرض، ليس الغريب في هذا الحصار أن يضحي المسلمون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وبأولادهم؛ لأنهم يقاتلون من أجل عقيدة، لكن الغريب فعلا أن يصبر الكافر من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار وهو لا يرجو جنة ولا يخاف من نار، بل لا يؤمن بالبعث، ومع ذلك وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف، لكنهم وقفوا هذه الوقفة حمية، حمية الكرامة أن يهان رجل من نفس القبيلة، حمية الدم والقرابة، حمية العهد الذي قطعوه على أنفسهم قبل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعاونوا سويا في حرب غيرهم، حمية واقعية ليست بالخطب والمقالات والأشعار، وضحوا بأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم من أجل كلمة.
وكتب كفار مكة بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق "أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل" قال ابن القيم يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشلت يده.
تم هذا الميثاق، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم - إلا أبا لهب - وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة.
واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سراً، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الاشتراء.
وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة رضي اللَّه عنها وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البختري، ومكّنه من حمل القمح إلى عمته، وكان أبو طالب يخاف على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يأتي بعض فرشهم.