عززت الأزمة التي تواجهها روسيا في ظل العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة والغرب بعد العملية العسكرية في أوكرانيا، من التوجه الروسي نحو مزيد من الانفتاح على علاقات أوسع مع الصين.
السبب وراء التقارب الصيني الروسي
ازداد تقارب نهج روسيا والصين تجاه القضايا الأساسية للنظام العالمي الحديث والمشاكل الدولية الرئيسية، وأصبحت الدولتان داعماً أساسياً لبعضهما البعض في العديد من القضايا، وموسكو تساند بكين في عدة قضايا منها تايوان وشينجيانج التي يستخدمها الغرب ضد الصين.
ورغم تأكيد الصين أنها تقف على الحياد في حرب روسيا على أوكرانيا، فإن الدول الغربية تطالب الصين باتخاذ موقف أكثر وضوحا وعدم تعزيز العلاقة مع موسكو.
واقتنصت الصين من جانبها الفرصة لحصد عديد من المكاسب جراء هذا التقارب، لا سيما المكاسب الاقتصادية المرتبطة بالحصول على الغاز والنفط الروسي بأسعار مخفضة في ظل ما تشهده شبكة الإمدادات العالمية من الغاز من اضطرابات.
وتأكيداً لما سبق، أبرمت موسكو وبكين صفقة ضخمة لتوريد الحبوب والبقوليات والبذور الزيتية الروسية إلى الصين، في إطار زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين للمشاركة في “منتدى الحزام والطريق الثالث للتعاون الدولي”. وفق ما أكدته وكالة تاس الروسية.
وقال رئيس مبادرة “ممر الحبوب البري الجديد” الروسي كارين أوفسيبيان: “لقد وقعنا اليوم واحدا من أكبر الاتفاقات في تاريخ العلاقات بين روسيا والصين، يحقق صفقة بقيمة 2.5 تريليون روبل (بنحو 25.7 مليار دولار) لتوريد 70 مليون طن من الحبوب للصين على مدى 12 عاما”.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكد الأربعاء 18 أكتوبر، خلال مباحثات مع الرئيس الصيني شي جين بينج في بكين أن حجم التجارة بين روسيا والصين سيتجاوز 200 مليار دولار حتى نهاية العام.
وحسب الوكالة، جرت المباحثات بين الزعيمين الروسي والصيني في إطار مشاركة الرئيس الروسي في منتدى “الحزام والطريق”، المنعقد في بكين خلال يومي 17- 18 من أكتوبر الجاري بمشاركة رؤساء وممثلين قرابة 140 دولة و30 منظمة دولية.
يذكر أن “الحزام والطريق”، مبادرة دولية أطلقتها الصين بهدف تطوير ممرات نقل تجارية تربط قارات العالم والبنية الأساسية والتجارية والتمويل والخدمات اللوجستية، وتقوية الروابط الشعبية لتعزيز التنمية التجارية وتحقيق التنمية والازدهار للدول المشاركة على طول الطريق.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأربعاء، خلال زيارته بكين، إنّ الصراعات والتهديدات في العالم "تُعزّز" الروابط بين بلاده والصين، مضيفاً، "في ما يتعلق بتأثير العوامل الخارجية والصراعات على تطوّر العلاقات الروسية الصينية، فإنّ كلّ هذه العوامل الخارجية تشكّل تهديدات مشتركة تعزّز التعاون بين روسيا والصين".
كذلك، دعا فلاديمير بوتين إلى "النظر بتفاؤل" إلى "آفاق" التعاون مع حليفته الصين، الشريك الأساسي لموسكو في وقت تُلقي فيه العقوبات الدولية بثقلها على الاقتصاد الروسي.
وكان الرئيس الروسي يتحدّث خلال مؤتمر صحفي، بعد ساعات قليلة من لقائه مع الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي أشاد بالثقة المتبادلة "المتنامية" بين البلدين.
وقال شي لحليفه بحسب ما ذكرت وكالة أنباء الصين الجديدة "الثقة المتبادلة بين البلدين في نمو مستمر"، في وقت يبدي فيه الرئيسان وحدتهما ازاء الغرب، ودعا شي أيضًا إلى "بذل جهود" صينية روسية لحماية "الإنصاف والعدالة الدوليين" مشيدا ب"التنسيق الاستراتيجي الوثيق والفعال" بين البلدين، حسب الوكالة نفسها.
وأشار الرئيس الصيني أيضا إلى أنه التقى فلاديمير بوتين "42 مرة خلال السنوات العشر الأخيرة" وأن الرجلين "طورا علاقة عمل جيدة وصداقة عميقة"، مضيفاً "بلغت المبادلات الثنائية مستوى غير مسبوق وتقترب من هدف 200 مليار دولار الذي حدده الطرفان".
والتقى الرئيسان في قصر الشعب على هامش منتدى "الحزام والطريق" الذي ينظم في العاصمة الصينية، والذي يأتي في وقت تتوجّه فيه أنظار العالم إلى الحرب بين إسرائيل وحماس.
وتستضيف الصين هذا الأسبوع في بكين ممثلي 130 بلدًا في منتدى "الحزام والطريق" وهو مشروع ضخم لتطوير البنى التحتية في الخارج أطلقه الرئيس شي جينبينغ قبل عقد من الزمن. ويشكل فلاديمير بوتين الضيف الرئيسي في هذه القمة التي تستمر حتى الأربعاء.
ويجري الرئيس الروسي أول زيارة له لقوة عظمى منذ غزو موسكو لأوكرانيا في فبراير 2022 الذي ادى إلى قطع العلاقات بين روسيا ودول أخرى كثيرة. وأضاف "نحن نعارض العقوبات الأحادية والإكراه الاقتصادي وفكّ الارتباط".
وفي إطار من التوتر مع بكين، يدعو بعض المسؤولين السياسيين في أوروبا والولايات المتحدة منذ عدة أشهر الى قطع أي رابط اقتصادي مع العملاق الآسيوي او على الاقل الحد من اعتمادهم عليه.
وقال شي "ان النظر إلى تنمية الآخرين كتهديد، والترابط الاقتصادي كخطر، لن يحسن حياة الجميع، ولن يجعلهم يتطورون بشكل أسرع".
وأعلن الرئيس الروسي أن "روسيا الاتّحادية والصين، على غرار غالبية الدول، تتشاطران الرغبة في تعاون على قدم المساواة في العالم".
وغادر رئيس الوزراء الفرنسي السابق جان بيار رافاران، الذي حضر المنتدى بصفته مبعوثاً خاصاً للرئيس إيمانويل ماكرون، الصالة قبل فترة وجيزة من بدء خطاب بوتين، وفقاً لصحافيين موجودين في المكان.
وخلال لقائه مع "صديقه العزيز" شي جينبينج، أكد الرئيس الروسي على أهمية "التنسيق الوثيق في السياسة الخارجية" في ظلّ "الظروف الحالية الصعبة"، وفق الكرملين.
ورحّب بوتين بـ"نجاح" مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين. وقال "بالنظر إلى الأبعاد العالمية للمبادرة التي أطلقها الزعيم الصيني قبل عقد من الزمن، بصراحة، كان من الصعب على المرء أن يتوقّع نجاحها".
وفي خطابه، دافع شي جينبينج عن طرق الحرير الجديدة، مشروع البنى التحتية الواسع النطاق الذي تقدمه بكين في حوالى مئة دولة مؤكدة انها تريد "اعطاء زخم جديد للاقتصاد العالمي.
وقال شي "تهدف طرق الحرير الجديدة إلى تعزيز التواصل في مجال السياسة والبنى التحتية والتجارة والتمويل وبين الشعوب وإعطاء زخم جديد للاقتصاد العالمي". وأضاف "نعتقد بشدة ان التعاون المربح للجانبين هو وحده الذي يتيح القيام بأمور والقيام بها بشكل جيد".
مكاسب يسعى إليها الزعيمان
يأتي اللقاء بين بوتين وشي جينبينج في وقت تشتد فيه الحرب بين اسرائيل وحماس، ووصف بوتين الأربعاء القصف الذي طال مستشفى في غزة موقعاً مئات القتلى بالـ"مأساة"، بينما أعربت الصين عن "صدمتها" ودانت "بشدّة" هذه العملية.
وحضر ايضا الى بكين الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي اعتبر الاربعاء ان هجوم حماس في اسرائيل "لا يمكن ان يبرر العقاب الجماعي للفلسطينيين" في غزة. ودعا الى "وقف اطلاق نار انساني فورا".
وفي الشهر الماضي، قام الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون بزيارة رسمية إلى روسيا، وهي أول دولة يزورها منذ جائحة كوفيد-19، وفي 12 سبتمبر، وصل قطار كيم الخاص إلى محطة خاسان الحدودية، والتقى كيم وبوتين في ميناء فوستوشني.
ويُحدد محللون مجموعة من المكاسب التي تسعى الصين إلى تحقيقها، سواء حالياً أو في فترات مقبلة، من خلال تقاربها الآخذ في التصاعد على ذلك النحو مع روسيا، ومن بينها:
- على المستوى الاقتصادي: ضمان الوصول إلى السلع والموارد الروسية (بما في ذلك النفط والغاز) بأسعار مخفضة.
- على المستوى السياسي: تتطلع بكين إلى الحصول على نفس مستوى المساعدة حال إقدامها على القيام بعملية عسكرية في تايوان (تراقب بكين عن كسب تطورات الأوضاع في أوكرانيا وسط مقاربات مع المشهد بالنسبة لها في تايوان رغم اختلاف المشهدين).
- على المستوى الخارجي: قواسم مشتركة بين البلدين وتوافقات استراتيجية وأيدلوجية (من بينها رفض القطب الواحد في النظام العالمي).
ومن جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي ديمتري بريجع، إن ثمة اهتمامات مشتركة ومصالح اقتصادية كثيرة تجمع البلدين، وعندما أقبلت روسيا على تطوير علاقتها مع الصين على ذلك النحو فإنها مدفوعة بالضرورة التي حتمت ذلك في ظل ابتعاد الغرب عن موسكو (..) وليس بوسعها حالياً التراجع عن هذا التقارب مع الصين، موضحاً في الوقت نفسه أن بكين تجني من خلال ذلك التقارب عدداً من المكاسب الرئيسية، من بينها:
- الاستفادة من الثروات الباطنية في روسيا.
- هناك مؤشرات على أن الصين -ومع زيادة عدد السكان- قد تتجه إلى محاولة بناء مصانع في الداخل الروسي، كما أن هناك حديثاً بأن بكين ستبدأ ببناء مدن صغيرة لها في مناطق قرب الحدود الصينية الروسية (..) هناك مؤشرات طفيفة لذلك ولكنها واضحة.
ويوضح في تصريحات له، أن "الاستفادة متبادلة جراء تطور تلك العلاقة بين البلدين، ولا سيما بالنسبة للصين التي تستفيد اقتصادياً بشكل كبير من الثروات الباطنية الروسية"، مشيراً إلى أن "ثمة مخاوف يشير إليها بعض المحللين الروس مرتبطة بتمدد الصين في الداخل الروسي عبر بناء المصانع، وهو ما يعده البعض هناك بمثابة احتلال لهذه الأراضي في ضوء بعض المؤشرات على ذلك".
ويرى الخبير والمحلل السياسي، أن "الاتفاقات التي وقعت بين الرئيسين الصيني والروسي سوف تلعب دوراً مهماً في العلاقات الثنائية (..)"، مشيراً في الوقت نفسه إلى ما شهده اللقاء الأخير الذي جمع الرئيسين فيما يخص خط سيبيريا الثاني، وهو المشروع الذي يساعد روسيا اقتصادياً بشكل كبير بعد توقف ضخ إمدادات الغاز إلى أوروبا تقريباً، وبما يجبرها على البحث عن حلفاء جدد.
وبالنسبة لروسيا أيضاً، يعتقد بريجع، بأن تطوير العلاقات مع الصين على ذلك النحو ربما يكون داعماً مهماً في الانتخابات الرئاسية المقبلة (..). فيما يؤكد في الوقت نفسه أن بكين لديها نوع من التحفظ في سياساتها الخارجية، لجهة الرغبة في موازنة العلاقات، في ضوء علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، كما أن ثمة اختلافاً واضحاً في السياسة الخارجية لروسيا والصين.
وتتزامن المكاسب الصينية مع رغبة روسيا في تأمين دعم ملائم لها وعلاقات أكثر قوة في ضوء ما تواجهه من تحديات منذ الرابع والعشرين من فبراير 2022 وهو تاريخ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا.
وعززت تلك المكاسب التي يصبو إليها الطرفان نمو العلاقات الاقتصادية بينهما على نحو واسع، وهو ما تُظهره بيانات حجم التبادل التجاري، وإن كانت تصب في المقام الأول في صالح الصين بصورة أساسية، على النحو التالي:
- ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام 2022 بمقدار الثلث تقريباً (وفق رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين).
- بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي حوالي 190 مليار دولار ، مقارنة بـ 147 مليار دولار في العام 2021.
- يستهدف البلدان رفع حجم التبادل التجاري إلى 200 مليار دولار العام الجاري
- المحفظة الاستثمارية للجنة الحكومية الروسية الصينية في التعاون الاستثماري تشمل 79 مشروعاً بقيمة 165 مليار دولار
- الحصول على الطاقة بأسعار مخفضة
وفيما يتصل بهدف الصين في الحصول على ضمان الوصول إلى السلع والموارد الروسية (بما في ذلك النفط والغاز) بأسعار مخفضة، فإن الأرقام الرسمية تُظهر حجم التطور الذي شهدته الواردات الصينية من الطاقة الروسية على مدار العام الأول من الحرب في أوكرانيا، على النحو التالي:
- طبقاً للبيانات الصادرة عن عملاق الطاقة الروسي غازبروم، فقد ارتفعت صادرات الغاز الروسي إلى الصين خلال العام 2022 بمعدل 15.5 مليار متر مكعب.
- تعد روسيا أكبر مورد للنفط للصين في يناير وفبراير، بشحنات بلغت حوالي 15.68 مليون طن من النفط الخام (وفق بيانات من الإدارة العامة للجمارك في الصين)
- بلغت مشتريات الصين البلاد من موارد الطاقة الروسية المختلفة، نحو 88 مليار دولار خلال العام الأول من الحرب في أوكرانيا، وذلك ارتفاعاً من 57 مليار دولار في العام السابق لهذه الفترة.
- خلال العام الأول من الحرب، ارتفعت واردات الصين من النفط الخام الروسي إلى 89.3 مليون طن، مقابل من 78.4 مليون طن في الفترة السابقة.
- خلال العام نفسه، ارتفعت مشتريات بكين من الغاز الطبيعي المسال الروسي بنسبة 52 بالمئة إلى 6.86 مليون طن. كما ارتفعت وارداتها من الفحم الروسي بنسبة 33 بالمئة إلى 76.4 مليون طن.