بر الوالدين بعد الموت من الأمور التي يغفلها الكثيرون، خاصة من وقع في عقوق الوالدين حال حياتهما، لكن هل هناك أمور تكفر عن عقوق الوالدين؟، وما حكم إهداء ثواب القربات المالية والبدنية لهما؟
بر الوالدين بعد الموت
ما حكم إهداء ثواب القربات المالية والبدنية من صيام وصلاة وصدقة وحج واستغفار للأحياء والأموات؟ سؤال أجاب عنه مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية.
وقال: إن جميع العبادات المالية يصل ثوابها إلى الميت، وبعض العبادات البدنية كالحج والدعاء والاستغفار يصل ثوابها أيضًا إلى الميت. أما الصلاة فلا يصح أن يصلي أحدٌ عن أحد فرضًا ولا نفلًا، ولكن إذا صلى وأهدى ثواب الصلاة إليه فجائز على الأصح.
قال الزيلعي في «تبيين الحقائق» تحت باب الحج عن الغير: الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة صلاةً كان أو صوماً أو حجاً قراءةَ قرآنٍ أو أذكاراً إلى غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ثوابُ ذلك إلى الميت وينتفع به. و ذهب الحنابلة إلى جواز إهداء ثواب القربات للحي والميت؛ قال البُهوتي الحنبلي رحمه الله: وكل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها -كالنصف ونحوه- لمسلم حي أو ميت- جاز له ذلك، ونفعه لحصول الثواب له، كصلاة ودعاء واستغفار، وصدقة وعتق وأضحية، وأداء دَيْنٍ وصوم، وكذا قراءة وغيرها.
قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه؛ ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرءون، ويهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعاً. واعتبر بعضهم في حصول الثواب للمجعول له إذا نواه حال الفعل، أي القراءة أو الاستغفار ونحوه، أو نواه قبله. ويستحب إهداء ذلك، فيقول: (اللهم اجعل ثواب ذلك لفلان). وقال ابن تميم: والأَولى أن يسأل الأجر من الله تعالى، ثم يجعله له أي: للمُهدَى له، فيقول: (اللهم أثبني برحمتك على ذلك، واجعل ثوابه لفلان). وللمهدي ثواب الإهداء، وقال بعض العلماء: يثاب كل من المُهدي والمهدى إليه، وفضل الله واسع. «كشاف القناع عن متن الإقناع».
دعاء بر الوالدين بعد الموت
وبينت دار الإفتاء أن برُّ الوالدين فرضُ عينٍ؛ فهو عبادةٌ لا تقبل النيابة؛ قال العلَّامة برهانُ الدين بنُ مازه البخاري الحنفي في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (5/ 386، ط. دار الكتب العلمية): [وطاعةُ الوالدين وبِرُّهُما فرضٌ خاصٌّ لا يَنُوبُ البعضُ فيه عن البعض] اهـ. بخلاف رعايتهما؛ فإنها فرضُ كفايةٍ.
وقد أمر الإسلام بطاعة الوالدين إلا في معصية الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]، فمفهوم المخالفة لهذه الآية وجوب طاعتهما إن لم يأمرا ولدهما بمعصية.
وقد نهى الله تعالى عن عقوق الوالدين، وجعل عواقبه شديدةً ووخيمةً؛ ففيه عقوبة في الدُّنيا قبل الآخرة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «بابانِ مُعجَّلانِ عُقوبتُهما في الدنيا: البَغْيُ، والعقُوقُ» رواه الحاكم في "المستدرك".
كما أن عقوق الوالدين مانعٌ من دخول الجنَّة؛ روى النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ: العاقُّ لوالِدَيهِ، والمرأةُ المترجِّلةُ، والدَّيُّوثُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى».
والأمر بالبر في آيات القرآن الكريم لا يحصر برهما في حال دون حال، ولا في زمان دون آخر، فيجب على الولد أن يبر والديه حال حياتهما، وإن فاته ذلك في حياتهما فلا أقل من أن يبرهما بعد وفاتهما؛ روى أبو داود في "سننه" عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي عليَّ من بر أبويَّ شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نَعَمْ؛ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا».
فعلى من تُوفي والداه أن يكثر من الدعاء والاستغفار لهما؛ قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤]. وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في "صحيحه" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة..» وذكر منها: «وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ترْفَع للميت بعد موته درجة، فيقول: أي رب، أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك".
إذا أوصى الوالدان أو أحدهما بشيء، أو عَهِدَا عهدًا، فمن البر تنفيذ الوصية، والوفاء بالعهد، ومن البر أيضًا صلة رحمهما والإحسان إليهم.
ومن برهما أيضًا: إكرام صديقهما ومواساته إذا كان فقيرًا، وتعهده بالسؤال وإن لم يكن فقيرًا؛ ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا خرج إلى مكة، كان له حمار يتروَّحُ عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يومًا على ذلك الحمار، إذ مَرَّ به أعرابي، فقال: ألست ابنَ فلان؟! قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا، والعمامةَ، وقال: اشدُد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ حمارًا كنت تَرَوَّحُ عليه، وعمامةً كنت تَشُدُّ بها رأسك؟! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن من أبَرِّ البِرِّ صِلَةَ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّي»، وإن أباه كان وُدًّا لعمر.
ومن بر الوالدين كذلك أن يتصدق ويهب ثواب الصدقة لهما، لا سيما إذا كانت صدقة جارية؛ فإن ذلك يصل إليهما؛ روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أمي تُوُفيَتْ، أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: «نَعَمْ»، قال: فإن لي مَخْرَفًا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها.
وروى الإمام مسلم في "صحيحه" عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن رجلًا قال: إن أمي افْتُلِتت نفسها ولم توصِ، وأظنُّها لو تكلَّمتْ تصدَّقتْ، فهل لها أجْرٌ إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: «نَعَمْ».
وروى كذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبي مات وترك مالًا ولم يُوصِ، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: «نَعَمْ».
ومن البر بالوالدين بعد موتهما أيضًا: قضاء صوم النذر أو الكفارة عنهما؛ فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
وكذلك زيارة قبرهما؛ فعن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً» رواه أبو داود والبيهقي في "سننهما".
وأيضًا قراءة القرآن لهما، والأحاديث في ذلك صحيحة صريحة؛ روى عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلَاجِ عن أبيه قال: قال لي أبي -اللَّجْلَاجُ أبو خالد–: "يا بُنَيَّ، إذا أنا متُّ فأَلْحِدْني، فإذا وضَعْتَني في لَحدي فقل: باسم الله، وعلى مِلَّة رسول الله، ثم سُنَّ عليَّ التراب سنًّا (أي ضَعْه وضعًا سهلًا)، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها؛ فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ ذلك" أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، قال الهيثمي: ورجاله موثوقون.