الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عبد المعطي أحمد يكتب: باقي زكي والساتر الترابي

عبد المعطي أحمد
عبد المعطي أحمد

من أعظم ما صنعته السنوات الست التى تفصل بين هزيمة يونيو 1967والعبور العظيم فى أكتوبر 1973 أنها فجرت كل طاقات الإبداع لدى الإنسان، وحشدت خبرات هذا الشعب فى بوتقة واحدة صهرتها إرادة قوية استمدت حرارتها من حسن التخطيط، وجدية التدريب ودقة التنفيذ.


ولعل قصة العقل المصرى مع الساتر الترابى الرملى الرهيب الذى أقامته إسرائيل على طول الشاطئ الشرقى لقناة السويس ليكون بمثابة سد منيع يعيق أى محاولة مصرية لعبور القناة، تمثل نموذجا حيا لما كان يواجه قواتنا المسلحة من تحديات.


وربما زاد من حجم التحدى أن الخبراء العالميين الذين استشارتهم مصر وفى مقدمتهم الخبراء السوفيت أجمعوا على أن الوسيلة الوحيدة لإزالة الساتر الرملى هى استخدام قنبلة نووية ليست فى حوزة مصر وحتى لوكانت تملكها فإنها لاتقدر على استخدامها فى ضوء الموازين الدولية.!
وكان لا بد من استنباط حل مصرى صميم يعتمد على الجهود والإمكانات الذاتية ويسمح على الأقل بفتح ثغرات فى هذا الساتر عند مواقع منتقاه على طول خط المواجهة.


وهكذا ولدت فكرة استخدام مياه قناة السويس فى تجريف الساتر الترابى، باستخدام طلمبات عالية القدرة يتم تثبيتها على زوارق خفيفة وضخها بواسطة مدافع المياه بقوة اندفاع هائلة على الأماكن المحددة لفتح الثغرات.


نشأت الفكرة – التى لم ترق للكثيرين فى البداية – باقتراح طرحه المقدم "باقى زكى يوسف" خلال اجتماع فى مركز القيادة الرئيسى للجيش الثالث الميدانى خلال شهر مايو 1969أثناء مناقشة الاستعدادات اللازمة لعبور القناة.


كان صاحب الفكرة قد استلهمها من تجربة عمله فى بناء السد العالى، حيث كان يتم استخدام طلمبات المياه فى تجريف الرمال إلى قاع السد، حيث جرى نقل ملايين الأطنان من الرمال بهذه الوسيلة.


وخلال اجتماع التشكيل المكلف بالعبور الذى رأسه اللواء أركان حرب سعد زغلول عبد الكريم طرح المقدم باقى زكى تفاصيل اقتراحه، فاوضح أن عملية التجريف فى السد العالى كانت تبدأ بسحب المياه من النيل إلى  الأماكن الطبيعية لجبال الرمل بواسطة الطلمبات شديدة الاندفاع، مما يؤدى إلى تجريف الرمال وسحبها إلى قاع السد العالى، أما بالنسبة للساتر الترابى فإن المطلوب هو سحب المياه من القناة وضخها فى مواجهة الساتر الترابى لتعود المياه التى تم ضخها- ذاتيا- محملة برمال الساتر الترابى، وبذلك يتم فتح الثغرات فى الأماكن المحددة والمنتقاة لبناء الكبارى والمعديات.


وبعد أقل من أسبوع كان الاقتراح قد جرى تداوله- تصاعديا- على كل مستويات القيادة، وعندما عرض الأمر على الرئيس جمال عبد الناصر باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة أبدى انبهاره بالفكرة، لكنه أردف قائلا:"علينا قبل أن نحكم عليها أن نشرع فى تجربتها ومعرفة ما إذا كان يمكن استخدامها، والمهم أن يجرى ذلك تحت أقصى درجات السرية بحيث يحظر تداول أى معلومات عنها إلا فى دائرة محدودة وضيقة للغاية".


وبعيدا عن الأنظار, وبعيدا عن الجبهة, وفى منطقة الخطاطبة، جرت بنجاح أول تجارب مشجعة لنجاح فكرة استخدام طلمبات المياه.


وهنا بدأ التحدى الأكبر كيف نوفرتلك النوعية من الطلمبات ذات قوة الدفع الهائلة دون أن يشعر أحد بالهدف من إحضارها وبهذا العدد الكبيرالمطلوب فتحه من ثغرات فى الساتر الرملى، وكان لابد من حرمان اسرائيل من أن تحصل على أى معلومات حول النوايا المصرية، ومن ثم جرى ترتيب عملية شراء هذه النوعية من الطلمبات تحت مسميات مختلفة وبإسم أغراض مختلفة.


وإمعانا فى الخداع، فقد اقتصر أمر الشراء من الخارج على الطلمبات فقط، فى حين تولت المصانع الحربية مهمة توفير جميع المستلزمات الأخرى المطلوبة للتنفيذ من خراطيم ورشاشات وخلافه.


وعندما حانت ساعة الصفر يوم السادس من أكتوبر عام 1973 كانت القوات المسلحة قد استكملت بنجاح جميع التجارب الميدانية الشاقة التى أكدت صلاحية الفكرة للتنفيذ، كما أكدت قدرة المهندسين العسكريين المصريين على تحسين النتائج، وتقليل الزمن اللازم لفتح الثغرات بمعدل يفوق التقديرات المطلوبة من رئاسة الأركان.


وكان أصدق ماقيل عن هذا الاقتراح أنه قد يكون فضلا مضافا  لأفضال مشروع السد العالى على مصر, لكن الأهم من ذلك هو أنه بمثابة درس يؤكد أهمية مشاركة القوات المسلحة بكوادرها فى المشروعات القومية واكتساب الخبرات التى تضيف بمثل ماتعطى.