محاكمة مندوه الوراق ...
الزمن: السبت عصرا.
المكان: خارجي. الطريق الدائري.
الحالة: زحام، وحر يخنق الجنين في بطن أمه.
(يمل من القيادة بمفرده، ويرى فضاء محاطا بأسلاك من الشبك الممدد. بقعة أرض خلاء واسعة من الرمال الصفراء على يمين الطريق السياحي. يظهر الهرم الأكبر بكل عظمته من بعيد. يتوقف وقوفا كاملا وقد سحره المشهد. يخرج من السيارة بعيدا عن ارتكاز أمني غلب النوم على بعض أفراده. ينظر بأدب، ويتابع صامتا ما يحدث على بعد أمتار من وراء السياج. ماهذا ؟).
[[system-code:ad:autoads]]
الحاجب: محكمة. (تضرب عشرات من الغربان اجنحتها وهي على الأرض لتفر من المكان بعد أن افزعها صوت الحاجب الجهور)
القاضي: فتحت المحكمة وحكمها بات لا نقض له ولا إبرام.
مندوه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
القاضي: وعليكم السلام. تفضل واختصر. الحر يذيب الحجر. وهنا يمنعون الماء والكهرباء وظل الشجر.
مندوه: "افعل بإذن الله. سيدي القاضي هناء، أنا مندوه الوراق. أدبج الكلمات بالأجر للزبائن كما تعلمون. عدمت فرص السفر قبل سنين. وحرمت من عبق البنكنوت الأخضر المسحور. ضحيت بكل نعيم دنيوي من أجل أسرتي. واليوم، عندي شكاية. لا بل حكاية. اسرد حكايتي يا كبير القضاة. إذا سرتك، دعني أمضي وبريك لا تلعني. ولو ضقت بها، فتفضل بحذفها .. ثم امر مشكورا بإيداعي عنبر المبتسرين في أبو الريش الياباني. صدقني، ليس هناك ما هو أفضل منه لأمثالي. بديله سجل العقرب، ولا أطيقه".
القاضي: مقدمتك لا تلزمني. وإياك واختيار العقوبة. يقع هذا في صلب سلطاني. انطق يا هذا. واعلم أن الحر والغبار مزعجان لنا ولصاحب المكان.
مندوه: زوجتي مجنونة، ولا ينقصها سوى حيازة مستخرج 106، محررات مستشفى العباسية. مريض فاقد الأهلية، لا خطورة منه، ونوصي بمعاملته معاملة الأطفال. يصل عمر أصغر مواليد أسرتها الكريمة إلى 18 شهرا بالتقريب. إنها الحسناء سيليا، سليلة الصون والعفاف. الدلوعة من وسع. الأب ضابط شرطة شاب طيب المنبت، والأم بانكيرة خفيفة الظل وتعتبرني خالها. الصغيرة ناصعة البياض، ملونة الشعر والعينين كجداتها ومنهن أم العيال. تعلق قلب زوجتي الرقيق بها، وتملكها الهوس حقا وصدقا، وبكل ما في الكلمة من معنى. قبل أسبوعين، تعللت سيادتكم بأسنانها، وأصرت على علاج الجذور والعصب لدى عيادة الطبيب المتصيت فلان الفلاني في الجيزة، بالقرب من منازل أقاربها كلهم، الأشقاء وأبناء العمومة. بهذه الحيلة البسيطة، يمكنها أن تذهب مبكرا إلى أهلها حتى تستبقي الساحرة سيليا في أحضانها لأطول فترة ممكنة قبل تلقي العلاج، وهو مؤلم وممل للغاية كما تعلمون حضرتكم. قبل السفر من بوادي أكتوبر، تنقل معها ما لذ وطاب مما يفرح العيال في هذه السن، وتسعد بابتسامتها البريئة ما أن تلقاها. ترشوها بالهدايا من اللعب وأصناف الحلوى الملونة، وتحملها على ذراعها الأيسر لتسير بها في الطريق من بيت الشقيقة "كاف" إلى منزل ابنة الشقيقة "ش" ومنه إلى الشقيق "م". عذاب. وفوق هذا، تتعمد تركها حافية القدمين طيلة الوقت وهي برفقتها، حتى تحرمها من متعة المشي على الأرض وهي بحوزتها. أم رؤوم، تمنت أن تلد طفلين آخرين ولم تستطع لعوامل خارجة عن إرادتها. لتكن إرادة الرب. تكلمها، وتلاعبها، وتغرقها بالقبلات الحمقاء، متمنية لو كان بمقدورها أن ترضعها حتى الشبع من صدرها، بدلا من ثدي أمها الحقيقية ضعيفة الحليب. تلاغيها، وترقبها طويلا، ثم يغلبها النعاس من طول ما بذلت من جهد. بعد فترة، يوقظها محيطوها في آخر لحظة حتى تلحق بموعد الطبيب.
تصحبها إلى العيادة وتتركها مرغمة بحوزة ابنة خالتها الأكبر سنا منها. تتحمل ألم آلات الأسنان المزعجة، دون مخدر، على أمل أن تنتهي جلسة العلاج بسرعة وتستعيد سيليا. يطول الوقت ويرخي الليل ظلاله فتضطر (غير آسفة) للمبيت لدى أهل أي بيت مما سبق ذكره، شريطة أن تبقى الصغيرة في أحضانها حتى الصباح.
القاضي: ما شكايتك. لعنة الله عليك وعلى أمثالك. لا تضع علينا النهار.
مندوه: سيدي أنا مواطن سليم الطوية وأحب العيال. أشبه الرجال هيئة وهنداما. ولكنني صاحب علة وأطلب الاهتمام. أرجوه. لا بل أتسوله. يقولون إن علتي في قلبي، وهذا كذب وافتراء. أنا سليم معافى طالما بقي في الصدر نفس. يمكنك أن تعتبرني في العنفوان أسد.
القاضي: أسد بلا أنياب ولا أظافر. ألا ترى هذالك ؟. يا رجل، ضقت بطلباتها. ولا تدري ما العمل ؟. صح ؟.
مندوه: تستنزف طاقتي هي وابنتها. ثم تأتي المفعوصة سيليا وتزيد الطين بلة. أنا نفسي أحبها. هل تتخيلون سيادتكم أنني اليوم فقط أرتاح. أيام وراء أيام وأنا انتقل من مكان إلى آخر. ليلا ونهارا. من اكتوبر إلى الجيزة، والتجمع، والقرية الذكية، ومساكن شيراتون. وهكذا مرارا. لمسافات. لا ارفض لأحد طلبا ولا امل من الانتظار. ولكن لا يدرك احد ممن حولي أنه ممنوع علي القيادة، وطلوع السلم، وحمل الأثقال. أضف إليها التوتر، والمناهدة، والشجار. حظر شامل لثلاثة أشهر كاملة حتى يثبت طاقم الشنبر الصناعي المعتبر في مكانه وينبت من فوقه بعض الشعيرات الحمر في داخل الشريان. لا يدري بعلتي أحد. ولا أشكو من شيء. إن أحدا لم يلتفت إلى فوات موعد زيارة الطبيب لاطلاعه على تطورات جراحته الميمونة. لا وقت لي مطلقا.
القاضي: لا تشك من عائلتك. إياك !. ولكنك تطلب الرحمة بالتأكيد.
مندوه: أرجوها من الواحد القهار.
القاضي: نحكم باسم خوفو صاحب العظمة بإحالة الشاكي صاحب العيال إلى محاكمة عاجلة بتهمة إزعاج السلطات. وإلى أن تبدأ الإجراءات فجر غد، يعلق مقلوبا من رجليه على السياج.
(عند هذا الحد، قفز إلى داخل سيارته مرتعدا وعاد إلى أم العيال يحايلها ويسترضيها، ويقبل وجنتي ابنته الغالية، فما تبقى من صحته لن يتحمل خطر الشبح على جدار شأن المسكين مندوه الوراق).