لماذا نهى النبي عن الشرب واقفا ؟ ورد النهي في حديث نبوي عن الشرب واقفا، وثبت أيضا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب زمزم وهو واقف، وأن عليا رضي الله عنه شرب وهو واقف، وأكد الفقهاء، أن النهي عن الشرب واقفا هو للكراهة التنزيهية وليس للتحريم، وأن شرب النبي صلى الله عليه وسلم واقفا كان لبيان الجواز، فيجوز شرب الماء واقفا لمن أراد ذلك ولا إثم عليه.
حكم الشرب وضع الوقوف
قال الشيخ الراحل عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا، إنه كان من عادته -صلى الله عليه وسلم- أن يشرب وهو جالس، لكن جاء فى الصحيحين أنه جيء له بدلو من ماء زمزم فشرب وهو قائم.
وأوضح رئيس لجنة الفتوى السابق: أن الجمع بين الحديثين ممكن، وليس أحدهما بناسخ للآخر، فالشرب قاعدًا مستحب ومندوب إليه وليس واجبًا، ولذلك شرب النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض الأحيان قائما ليبين أنه جائز، وإن كان الأفضل الشرب جالسًا، وثبت أن بعض الصحابة وبخاصة الخلفاء الراشدون شربوا وهم قيام.
وأضاف: والحكمة من كراهة الشرب قائما لم ينص عليها النبى صلى الله عليه وسلم وقد كانت فيها اجتهادات ذكر ابن القيم كثيرًا منها فى كتابه "زاد المعاد" وذلك من واقع المعلومات الطبية التى كانت موجودة فى عصره والأمر يحتاج إلى توضيح جديد من ذوى الخبرة والاختصاص.
وأكد أن الإرشاد النبوى فى هذه المسألة إرشاد فى أمر قيل إنه من الأمور الدنيوية المحضة التى جاء فيها الحديث الصحيح "أنتم أعلم بأمور دنياكم" رواه مسلم، ولكن مع ذلك لا يخلو من مسحة دينية هى اتباع النبى صلى الله عليه وسلم فيما أرشد إليه، ولعل فيه حكمة يكشف عنها العلم فيما بعد، فما دام لا يوجد فيه ضرر ينبغى أن نحترمه ونتأسى به فيه، وليس ذلك على سبيل الإلزام، بل على سبيل الندب والاستحباب، والخروج عنه يكون لحاجة وبأقل قدر ممكن، حتى يقوى فينا احترام ما أثر عنه -صلى الله عليه وسلم- ولو فيما ليس فيه قربة لله تعالى، فالاقتداء نفسه وتنفيذ أمره قربة.
حكم الشرب واقفا
بدوره، نبه الدكتور يسري جبر، أحد علماء الأزهر الشريف، على أنه يستحب للمسلم أن يشرب وهو جالس؛ لأن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يشرب وهو قائم، فالشرب من القعود سنة، مستشهدًا بما رواه قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه نهى أن يشرب الرجل قائمًا».
وبين «جبر»، أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قاعدًا وقائمًا، فإذا احتاج الإنسان إلى ذلك فلا حرج أن يشرب قائمًا، وإن جلس فهو أفضل وأحسن، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه شرب من زمزم واقفًا في حجة الوداع لازدحام الناس حوله.
المنظور العلمي للشرب واقفًا:
كشفت الأبحاث الطبية الحديثة، عن بعض أضرار الأكل والشرب قائمًا، يقول الدكتور عبد الرزاق الكيلاني: "إن الشرب وتناول الطعام جالسًا أصح وأسلم وأهنأ وأمرأ؛ حيث تكون الأعضاء ساكنة، والمعدة مستريحة، فيسيل الماء من فمها على جدرانها بلطف وتؤدة، بينما إذا شرب واقفًا فإن الماء يتساقط من فمها إلى قعرها فيصدمه صدمًا، وإذا استمر الحال على ذلك مدة طويلة فقد تسترخي المعدة وتهبط، فيسوء هضمها للطعام".
وذكرت الأبحاث، أن الإنسان في حالة الوقوف يكون متوترًا ويكون جهاز التوازن في مراكزه العصبية في حالة فعالية شديدة حتى يتمكن من السيطرة على جميع عضلات الجسم لتقوم بعملية التوازن والوقوف منتصبًا، وهي عملية دقيقة ومعقدة يشترك فيها الجهاز العصبي والعضلي في آن واحد مما يجعل الإنسان غير قادر على تحصيل الطمأنينة العضوية التي تعتبر من أهم الشروط المرجوة عند الطعام والشراب، هذه الطمأنينة يحصل عليها الإنسان في حالة الجلوس حيث تكون الجملة العصبية والعضلية في حالة من الهدوء والاسترخاء وحيث تنشط الأحاسيس وتزداد قابلية الجهاز الهضمي لتقبل الطعام والشراب وتمثله بشكل صحيح.
ونوهت بأن الطعام والشراب قد يؤدي تناوله في حالة الوقوف -القيام- إلى إحداث انعكاسات عصبية شديدة تقوم بها نهايات العصب المبهم المنتشرة في بطانة المعدة، وإن هذه الانعكاسات إذا حصلت بشكل شديد ومفاجئ فقد تؤدي إلى انطلاق شرارة النهي العصبي الخطيرinhibition vagal لتوجيه ضربتها القاضية للقلب، فيتوقف محدثًا الإغماء أو الموت المفاجئ.
ولفتت إلى أن الاستمرار على عادة الأكل والشرب واقفًا تعتبر خطرة على سلامة جدران المعدة وإمكانية حدوث تقرحات فيها، حيث لاحظ الأطباء الشعاعيون أن قرحات المعدة تكثر في المناطق التي تكون عرضة لصدمات اللقم الطعامية وجرعات الأشربة بنسبة تبلغ 95% من حالات الإصابة بالقرحة.
وألمحت إلى أن حالة عملية التوازن أثناء الوقوف ترافقها تشنجات عضلية في المريء تعيق مرور الطعام بسهولة إلى المعدة ومحدثة في بعض الأحيان آلامًا شديدة تضطرب معها وظيفة الجهاز الهضمي وتفقد صاحبها البهجة والاطمئنان عند تناوله لطعامه وشرابه.
النهي عن الشرب والأكل من وضع الوقوف
عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه نهى أن يشرب الرجل قائمًا». قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟، فقال: ذاك أشر أو أخبث. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زجر عن الشرب قائمًا». وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يشربن أحد منكم قائمًا، فمن نسي فليستقيء». وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل رآه يشرب قائمًا: «قئ، قال: لمَ؟ قال: أتحب أن تشرب مع الهر؟ قال: لا، قال: فقد شرب معك شر منه، الشيطان».
جواز الشرب والأكل من وضع الوقوف
عن النزال قال: أتي علي رضي الله عنه على باب الرحبة بماء فشرب قائمًا، فقال: إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل كما رأيتموني فعلت». وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمًا من زمزم». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نأكل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام»، وفي رواية أخرى: «كنا نشرب ونحن قيام ونأكل ونحن نسعى على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-».
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرب قائمًا وقاعدًا»، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرب قائمًا وقاعدًا، ويصلي حافيًا ومنتعلًا، وينصرف عن يمينه وعن شماله». وعن أم سليم رضي الله عنها: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب من فم قربة قائمًا».
آراء العلماء في الأحاديث
رأى الإمام النووي، أن "هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالًا باطلة وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها وادعى فيها دعاوى باطلة لا غرض لنا في ذكرها، وليس في هذه الأحاديث بحمد الله تعالى إشكال ولا فيها ضعف بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه».
وأفاد النووي، أما شربه -صلى الله عليه وسلم- قائمًا فبيان للجواز فلا إشكال ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه، وأما من زعم نسخًا أو غيره فقد غلط غلطًا فاحشًا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث لو ثبت التاريخ وأنى له بذلك.
وتابع: فإن قيل كيف يكون الشرب قائمًا مكروهًا وقد فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالجواب: أن فعله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان بيانًا للجواز لا يكون مكروهًا بل البيان واجب عليه -صلى الله عليه وسلم-.
وأوضح: أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فمن نسي فليستقيء» فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائمًا أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح؛ فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب".
ولفت ابن حجر، إلى أنه "ثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري، وفي الموطأ أن عمر وعثمان وعليًا كانوا يشربون قيامًا، وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسًا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين، وسلك العلماء في ذلك مسالك: أحدها الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم، المسلك الثاني دعوى النسخ وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز.
وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكًا بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع.
ولفت ابن حزم، إلى أنه إذا كان ذلك الأخير من فعله -صلى الله عليه وسلم- دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده، المسلك الثالث الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي في نصره الصحاح والمراد بالقيام هنا: المشي، يقال قام في الأمر إذا مشى فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِما﴾ [آل عمران: 75]، أي مواظبًا بالمشي عليه.
وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا أن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها، وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض.
وأشار الأثرم إلى ذلك أخيرًا، فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزًا ثم حرمه أو كان حرامًا ثم جوزه لبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بيانًا واضحًا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا، وقيل إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدًا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائمًا