الثراء الإبداعي التنويري كان أحد إفرازات ثورة يوليو التي أرخت لها ، ووضعت الأجيال علي مقربة من تاريخها وجعلت لها قاعدة جماهيرية، بركيزة الوصل لفلسفتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هو ما ضمن لها الخلود في الوجدان قبل صفحات التاريخ ، وظلت الصورة الذهنية للمصريين علي مدار أكثر من نصف قرن تتذكرها بكل العرفان.
كانت المهمة التنويرية هي أحد أهداف الثورة التي آمن بها عبد الناصر وفي صدارة أولوياته ،كان الاتجاه لإعادة صياغة الهوية الثقافية وبناء الانسان وتشكيل وجدانه الجمعي وإخراج الثقافة من دائرة النخبة إلى دائرة العامة.
وأصبح الهدف الأول للزعيم جمال عبد الناصر إرساء دعائم البنية التحتية للمؤسسات الثقافية،وكانت البداية إنشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة بمختلف أنحاء الجمهورية الوليدة، لتعويض محافظات همشت وطال حرمانها في محاولة لتغيرالتركيبة الثقافية ،لتشمل جميع الشرائح المجتمعية فوصلت الثقافة بمفهومها الواسع إلى قلب الشارع المصرى والعربي.
وكان أدراك الدولة لأهمية صناعة السينما حاضرا،لاستكمال المنظومة الأبداعية باعادة تشكيل الوعي الجمعي للمصريين ،فتدخلت لدعمها وخصصت لها لأول مرة بند في الميزانية العامة للدولة ،وأنطلقت المؤسسة العامة للسينما كأحد روافد القوة الناعمة والداعمة، لتكون أنعكاسا يتماشي مع أستراتجية الدولة داخليا وخارجيا.
فتم أنتاج عدد من الأفلام تسعي لجعل العامة علي مقربة من مؤسساتها وأكثر ارتباطا بها ،منها سلسلة أفلام للفنان إسماعيل يس تحمل أسمه، إسماعيل يس في الجيش في البوليس الحربي في الأسطول في الطيران ،والتي استعرضت في إطار مجتمعي بنكهة كوميدية جوانب من حياة الجيش والعسكرية المصرية، لتغيير الصورة النمطية والمفاهيم المغلوطة تجاه الجندية والحياة العسكرية قبل الثورة، والتي كانت تدفع بعض المصريين للتهرب من الخدمة العسكرية بدفع مقابل مادي, ليتم غرس قيما جديدة عن شرف الجندية والخدمة العسكرية وبناء قيم ولاء وأرتباط وأنتماء صمدت أمام كل محاولات النيل من المكانة التي غرسها عبدالناصر في نفوس المصريين تجاه مؤسساته العسكرية الوطنية.
ساهمت صناعة السينما للترويج لجانب آخر لثورة يوليو وهو الأصلاحات الأجتماعية ومردودها علي حياة المصريين خاصة تحديد الملكية الزراعية والتأميم ،كما كانت داعمة للمشروعات العملاقة التي دشنها الزعيم عبد الناصر مثل السد العالي ،بالاضافة إلي أنتاج الأفلام التاريخية التي أكدت أتجاه مصر العروبي القومي، منها الناصر صلاح الدين وجميلة بوحريد.
وكانت الأغنية الوطنية الوجه الاخر لعصر النهضة الابداعية ،ودورا آخر لدعم الأتجاه العروبي الذي تبناه ناصر ، بترسيخ مفهوم الدولة ودعم مشروعاتها الوطنية، من خلال العمالقة أم كلثوم، عبد الحليم حافظ ، محمد عبد الوهاب وغيرهم من نجوم تلك الحقبة.
وكان لا بد من أستكمال المنظومة الثقافية بإنشاء أكاديمية الفنون ،التي ضمت المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية.
إنشاء التليفزيون العربي أبو الشاشات العربية كان أحد أنجازات يوليو ، ورسالة تنويرية داخل كل بيت عربي من المحيط للخليج ، ويصبح أسمه التليفزيون العربي وينبثق منه مسرح التلفزيون ،الذي ساهم في خلق مناخ مسرحي غير مسبوق في مصر.
فكما كان عصر ناصر هو العصر الذهبي للسينما والأعلام كان العصر الذهبي للمسرح ،حيث شهد المسرح المصري نهضة حقيقية ،فتأسست العديد من الفرق المسرحية ونجحت الثورة في تفريخ كوكبة من كتاب المسرح المصري الذين تركوا بصماتهم الواضحة في تاريخ الفن المسرحي ، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور ونعمان عاشور وألفريد فرج.
ثورة يوليو كانت نقطة تحول في مسار التاريخ الحديث، والحدث الأهم في التاريخ المصري أتفقنا أو أختلفنا معها, فقد ألقت بظلالها على كل مناحي الحياة أجتماعيا وسياسيا وأقتصاديا. وكان الفن و الأدب أنعكاسا لإرهاصاتها ومرسخا لها.