لدينا الكثير من الباحثين ودارسى التاريخ من أساتذة الجامعات ، لكن لدينا شح كبير فى المؤرخين الجادين المؤثرين فى حركة الكتابة التاريخية الرصينة . لدرجة أن معظم المصادر التاريخية ذات الثقل تجدها فى المكتبات الغربية البريطانية والفرنسية حتى فى التاريخ المصري القديم . فكيف نعتمد على تاريخ كتبه لنا المحتلون؟ ولماذا أهملنا عمليات تطوير الكتابة التاريخية ونحن الذين حفرناه على الأحجار ليبقى آلاف السنين؟!
أقول هذا بمناسبة صدور كتاب مهم من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب لمؤلفه الدكتور أحمد زكريا الشِّلق بعنوان ( نهضة الكتابة التاريخية فى مصر.. من الحوليات إلى التاريخ العلمى)..أما الحوليات فهى طريقة لتسجيل التاريخ سنة بسنة وخير ما يمثلها كتاب بدائع الزهور لابن إياس، وهو الأسلوب الذى استخدمه أحمد شفيق باشا فى أعماله، أما التاريخ العلمى فيقصد به الطريقة الأكاديمية المعاصرة لكتابة التاريخ وتسجيله بطريقة حيادية مجردة .
الكتاب شيق ومختلف وضرورى للباحثين فى علوم التاريخ؛ ذلك أنه يمثل توثيقاً لميراثنا الثرى من عمالقة المؤرخين الذين أحدثوا نقلات نوعية فى مراحل تطور الكتابة التاريخية. وهو من تقديم الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق، الذى أشار إلى ما يتمتع به مؤلف الكتاب من براعة فى منهجه العلمى والبحثى ، ورغبة حقيقية فى ملء الفجوات والثغرات التاريخية فى كتابتنا المعاصرة وتسجيلنا لأحداث التاريخ.
يتكون الكتاب من أحد عشر فصلاً ، أول فصلين منهم يركزان على التعريف بالفترة التاريخية المنتقاة للدراسة وروادها بشكل عام .. أما بقية الفصول فإنها مختصة ببيان أهم إسهامات عدد من المؤرخين المعاصرين بدءاً من أمين سامى باشا وأحمد شفيق باشا، ومروراً بمحمد فريد بك ونعوم شقير بك ويوسف نحاس بك، وطائفة من رواد المدرسة الأكاديمية الوطنية فى التأريخ، وانتهاءً بمحمد صبري السوربونى الذى تبنى فكرة التأصيل العلمى للتاريخ القومى، وأحمد عزت عبد الكريم مؤسس مدرسة تاريخ العرب الحديث، ثم أحمد عبد الرحيم مصطفى الذى أرسي دعائم المعرفة العلمية للتاريخ.
والحق أن الكتاب دفعنى للتفكير بأن عملية تسجيل التاريخ على قدر أهميتها وعظم قدرها، فإنها تنشأ من جهود فردية منذ الجبرتى وحتى اليوم.. فهى لا تتم بمجهود قومى يستوعب مختلف مدارس الكتابة التاريخية. حتى أن المؤلف يؤكد فى مقدمة الكتاب على أنه لم يقدم حصراً لإسهامات المؤرخين جميعهم لأنه جهد موسوعى ضخم لا يستطيع أداءه بمفرده، وإنما اكتفى بذكر المؤثرين والرواد فحسب. معنى هذا أننا لا زلنا مهملين للعمل الجماعى المنظم لدراسة وتسجيل وتوثيق التاريخ بمختلف اتجاهاته وزواياه . وأن الريادة فى هذا الشأن ستظل فى أيدى الجامعات والمؤسسات الغربية الكبري حتى إشعار آخر!
يقول المؤلف: ( إن حركة التأليف فى مصر الإسلامية فى العصور الوسطى بدأت بابن الحكم.. "وما إن جاء القرن الخامس عشر الميلادى إلا وبلغت الحركة ذرتها من حيث وفرة الإنتاج وتنوعه، وظهر مؤرخون عظام من أصحاب الموسوعات كابن خلدون والمقريزى وابن حجر والعينى وابن تغرى بردى والسخاوى.. وكان آخر ما عرفته مصر فى نهاية عصر المماليك بروز ابن إياس وابن زنبل الرمّال..).. وقد اهتم المؤلف بالوقوف على التحول الكبير الذى حدث فى الكتابة التاريخية بظهور عبد الرحمن الجبرتى الذى كان يمثل نقلة نوعية بعد أن ساد أسلوب الزخارف اللغوية والافتقار للتحليل والتدليل والتركيز على تراجم الأعلام والسلاطين دون الأحداث. كما تحدث المؤلف عن طائفة ممن عرفناهم لأدوارهم السياسية أو العلمية بينما كانوا من المؤرخين المؤثرين مثل رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك ومحمد فريد ومصطفى كامل وغيرهم..
ومن خلال قراءتى للكتاب الدسم الماتع، رقى إلى خلدى أن المؤرخين المعاصرين حتى من الأكاديميين ينقسمون إلى طائفتين .. إحداهما موسوعية شمولية تحاول البحث فى شتى جوانب التاريخ، وتهتم بتغطية أغلب جوانب التاريخ المعاصر أو القديم قدر المستطاع وهؤلاء قلة. وآخرون يركزون أكثر على ملء الثغرات وجوانب النقص فى عملية التأريخ فيتناولون جانباً محدداً من جوانبها كما فعل نعيم شقير فى كتابه عن تاريخ سيناء. وفى كلتا الحالتين هناك جانب إبداعى لدى البعض من هؤلاء المؤرخين يتمثل فى قدرتهم على إنشاء مدرسة جديدة فى الكتابة التاريخية كما فعل أمين سامى باشا بالتأريخ لمصر من خلال تقويم النيل، وهى طريقة ذكية للربط الوجودى بين النيل وبين مصر تاريخياً.
هذا الكتاب ليس للمتخصصين فقط وإنما لسائر المثقفين من المهتمين بمعرفة أعلام ورواد الكتابة التاريخية وما أحدثوه من قفزات ونقلات نوعية فى الكتابة التاريخية. وهو مجهود فريد يضاف لمؤلف الكتاب، بل ومن قبله رئيس الهيئة الدكتور أحمد بهى الدين هذا الرجل صاحب العقلية الفريدة المحبة للتطوير ، والذى شهدت إصدارات الهيئة فى عهده تطوراً وتنوعاً كبيراً، وأرجو أن يستمر على مثل هذا النهج البارع.