وعلى الباغي تدور الدوائر وبين الظلم الظاهر والعدل الخفي خيط رفيع لا يراه إلا أهل القلوب.
مازلت غارقة في قصص الأدب الفرعوني وكلما اطلعت علي قصة جديدة أشعر بالفخر والامتنان تجاه أجدادي الفراعنة كوني مصرية أنتمي لحضارة تشرق وتنير العالم بأسره، عظيمة لم ولن تندثر أبداً ، فعندما كان العالم يعيش فى الجهل والظلمات كانت مصر تسطر أمجاد العلم والتاريخ.
هيا بنا نتعرف على حدوتة جديدة من حواديت الأدب الفرعوني من الظالم ومن المظلوم وعلي من سوف تدور الدوائر.
وهي قصة مصرية قديمة تسمي الفلاح الفصيح وحماره القوي وهو فلاح مصري يدعي" خن أنوب " عاش في عهد الأسرة التاسعة أو العشرة. تدور أحداث القصة من خلال الصراع بين الحق والباطل الواقع على الفلاح الفصيح الذي تعرض لاعتداء من قبل موظف فاسد في أرض النبيل يدعى رنسي بن ميرو وذلك عندما قرر فلاح مصري قديم السفر من بلده حقل الملح " وادي النطرون " حالياً إليّ مصر لبيع ثمار أرضه كي يشتري لزوجته وأطفاله ما ينقصهم، وذات يوم قال خن أنوب لزوجته يا زوجتي الحبيبة ماذا لو ذهبت إليّ مصر وتبادلت السلع كي أجلب ما ينقص علينا قالت الزوجة أذهب صحابتك السلامة يا زوجي قال لها فكيلي لي مكاييل القمح وعدي لي طعام السفر.
وعندما انتهت الزوجة من أعداد الطعام وهو عبارة عن خبز من القمح وحمل الفلاح حماره القوي حملاً من البضائع المتنوعة وعد الرحيل في رحلة استغرقت عدة أيام وعندما دخل مصر في الصباح كان هناك "نمتي نخت" الموظف الفاسد وكان يعمل تحت إمرة النبيل رئيسة في العمل ويسمي "رنسي". وعندما رَآه "نمتي نخت" الحمار محملاً بالبضائع والخيرات أعجب به ولمعت عينه ومليئه قلبه بالطمع في الحمار وما عليه من بضائع وقال : يا لها من غنيمة كبيرة يجب أن تكون لي، وقرر "نمتي نخت" أن يدبر له مكيدة حتي يحصل علي الحمار وما عليه عندما كان يقترب من أرضه وكان منزل هذا الرجل الفاسد قريب من النهر وكان أمامه ممر ضيق مما أتاح له بوضع قطع قماش من الكتان وتغطية هذا الممر الضيق بالكامل حيث لا يجد جانب واحد من النهر والجانب الآخر حقول "نمتي نخت" الخاصة مما يضع الفلاح الفصيح في الأختيار المحير وواقف "خن أنوب" وقال: يا لها من حيرة وهو إما أن يدهس على القماش، أو يخطو في مياه النهر أو يأخذ حماره فوق حقول "نمتي نخت" لمواصلة رحلته.
وبدت الحيرة على وجه خن أنوب الفلاح الفصيح وبدأ يخطو أول خطوة نحو القماش فقال له "نمتي نخت" أنتبه أيها الفلاح الحقير اتريد أن تدهس علي ثوبي؟ فإنزعج الفلاح واستجاب وحول واجهته إلي ناحية أخري وهي الأرض فصاح "نمتي نخت" وقال: أتريد أن تدهس علي قمحي وبينما كان خن أنوب الفلاح الفصيح منزعجاً من تنبيهات "نبتي نخت" الغير منطقية جاع الحمار وأكل من ثمار الارض، وما أن راء هذا الموظف الفاسد الحمار وهو يأكل من ثمار الأرض إلا وان صاح علي الفلاح وضربه وقبض علي الحمار وأخذه بما عليه وقال له الرجل الفاسد عقاباً لك سوف آخذ منك الحمار وما عليه من بضائع وظل الفلاح الفصيح يبرر له ما حدث ويتضرع له لمدة عشرة أيام بان يترك له حماره وبضاعته ولكن دون جدوي.
وبعد محاولات كثير من الفلاح الفصيح لإسترداد حماره وبضاعته من الموظف الفاسد نبتي نخت قرر الفلاح الفصيح بان يقوم برفع شكاوى إلى مديره "رنسي" مطالباً بتحقيق العدالة ورفع الظلم عنه، وعندما علما "نمتي نخت" بان الفلاح سوف يرفع شكوي هدد "نمتي نخت" الفلاح قائلاً : سوف أقتلك إذا تجرأت وقدمت شكوي ضدي يا فلاح ولكن "خن أنوب" الفلاح الفصيح لم يستسلم وواصل في كتابة الشكوي وقال له في الشكوي الأولي أقم العدل أليس العار أن الميزان مائل، ومقيم العدل منحرف.
وقال له أنظر كيف العدل يرزح من تحتك، ثم يقول له: إن كيال أكوام الغلال يعمل لمصلحته، وقال له ايعقل بان الذي يجب أن يحكم بمقتضى القانون، أن يأمر بالسرقة، قائلاً فمن الذي يكبح الباطل هنا؟
فالمسؤولون هنا يتسببون في الويلات، وما يجب حسابه ينحى جانباً
وأما بالنسبة للمحققون فهم من يقتسمون المسروقات.
ولكن فشل خن أنوب في الحصول علي العدالة واسترداد حقوقه، وأخذ يبحث عن النبيل رنسي ابن مرو، حتي يعرض قضيته عليه والظلم الذي وقع عليه من "نمتي نخت" حتي يرفع قضيته إلى القضاة، وبعد أن وجد النبيل رينسي وعرض عليه قضيته قائلا له : وأنت بمثابة حابي إله النيل، الذي يهب الأرض مياهاً حتي أصبحت حقولاً، اكبح جماح السارق، ودافع عن الفقير ومن هو مثلي، ولا تكونن ضد الشاكي، و أن أصدق طريق للبلاد، هو إقامة العدل، ولا تقولن كذبا، فأنت الميزان ولفت أنتباه النبيل رنسي فصاحة لسان الفلاح البسيط ورفع القضية للقضاة ولَكن القضاة يرفضون القضية باعتبارها مجرد مسألة فلاح على خلاف مع مالك أرض، لكن رنسي لا ينقل هذه المعلومات إلى الفلاح. ويقوم رنسي ويعرض قصة الفلاح المظلوم أمام الفرعون نب كاو رع ويخبره كيف يتكلم الفلاح بفصاحة و ببراعة شديدة، أمر الفرعون رنسي بعدم الاستجابة لنداءات الفلاح، حتى يستمر الفلاح في إلقاء خطاباته البديعة ويمكن كتابتها للفرعون. أمر الفرعون رنسي بإطعام الفلاح وعائلته بينما يستمر الفلاح في الدفاع عن قضيته، وأصدر تعليمات أخرى "لرنسي" بعدم السماح للفلاح بمعرفة أنه هو الذي يوفر له الطعام.
وقال له كيف يشكو إليك الفقر الذي دمرته، لا تكن ثقيلا ولا خفيفا
لا تكن سريعا ولا بطيئا، لا تخفِ وجهك عمّا تراه
لا تعمِ عينيك عمّا تراه، لا تكن متراخيا وأعلن كلمتك
قائلاً : ها أنا أشكو إليك ولكنك لا تسمع، سأذهب وأشكوك إلى أنوبيس.
وظل لمدة تسعة أيام يمتدح "خن أنوب" النبيل رنسي وتوسل من أجل العدالة قائلاً له مجدداً : "يا مدير البيت العظيم، يا أعظم العظماء، إنك أبُّ لليتيم، وزوج للأرملة، وأخ لتلك التي نُبذت، وغطاء لذلك الذي لا أم له.
دعني أجعل اسمك فى هذه الأرض يتفق مع كل قانون عادل، فتكون حاكماً شريفاً مشجعاً للعدل يلبى نداء المستغيث.
إني أتكلم، فهل لك أن تسمع؟ .
يا مثقال الميزان، لا تمل، ويا خيط الميزان لا تتذبذب.
إن الإنسان سيموت مع خدمه، وهل ستكون رجلاً مخلداً؟ إن العدل يفلت، والقضاة ينحازون إلى جانب اللص.
إن الذي يجب عليه أن يحكم بالقانون يأمر بالسرقة، فمن ذا الذي يكبح الباطل إذن؟ وذلك الذي يجب عليه أن يقضى على الفقر يعمل على العكس، والذي يسير في الطريق المستقيم يتعثر، والآخر ينال الشهرة بالضرر.
والحكمة تقول: عامل الناس بما تحب أن تعامَل به.
يا أيها السيد العظيم، اكبح جماح السارق.
دافع عن الفقير، واحذر من قرب الآخرة.
وقِّع العقاب على من يستحق العقاب.
إنك قيِّم على الميزان، اقبض على حبل الدفة.
أنت أيها السامع، إنك لا تصغ، ولماذا لا تصغ و بعد تسعة أيام من الخطب، هدد خن أنوب بالانتحار. بعد أن شعر أنه تم تجاهله بعد كل هذا الشكوي، أهان "خن أنوب" النبيل "رنسي" وعوقب بالضرب. بعد خطاب أخير، غادر الفلاح المحبط، لكن رنسي أرسل إليه وأمره بالعودة. لكن بدلاً من أن يعاقب الفلاح على وقاحته، أُنصف الفلاح. أعجب" رنسي" ، بعد قراءة خطاب خن أنوب الأخير، وعرضه علي الفرعون وأمر الفرعون "نب كاورع" النبيل رنسي بإعادة الحمار والبضائع إلى خن أنوب الفلاح الفصيح وتعويض الفلاح بكل ممتلكات نمتي نخت، مما جعل "نمتي نخت" فقيرًا مثل خن أنوب مسبقاً وبذلك تتحقق العدالة وكبح الفلاح الفصيح جماح الظلم بفصاحة لسانه وعاد إليّ زوجته وأطفاله ليس كما خرج ،عاد رجل غني محمل بالخيرات .