يصادف اليوم ذكرى ميلاد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، الذي مرت في عهده أسوء مجاعة التي عرفت بإسم الشدة المستنصرية، وذاقت مصر صنوف المعاناة المتعددة.
لم يعرف التاريخ المصري ولم يشهد الإنسان المصري ما هو أبشع منها، لقد كانت الشدة المستنصرية سابقة في تاريخ المحروسة لم تشهدها من قبل ولم تشهد مثلها منذ انتهاءها وحتى الآن. انخفض منسوب المياة وجفت الأراضي الزراعية، مات النبات وهلك الحرث والنسل، فقد الناس أعمالهم وفقدت الأموال قيمتها، شح الرزق وخابت الأماني وظن الناس أن الساعة كادت أن تقوم.
قد يظن البعض أن المستنصر كان ظالمًا، طالما حوت فترة حكمه شدة كالشدة المستنصرية إلا أن المستنصر كان على العكس تمامًا، فلقد كان حاكمًا عادلًا حسن السيرة محبوب من رعيته، حيث كانت لهذه الشدة أسبابًا مختلفة عن الظلم.
الشدة المستنصرية العظمى
الشدة المستنصرية بدأت في العام (٤٥٧ هجريًا) واستمرت لسبع سنين عجاف. كان سبب الشدة الرئيسي هو انخفاض منسوب المياه ولكن ما جعلها أسوء أزمة مرت بها مصر هو أسبابها المتعددة والمعقدة. كان السبب الأول هو تدخل (أم) المستنصر تدخلًا فجًا في أمور الحكم، فأصبح منصب وزير الدولة يعطى لمن تريد دون سواه وتعاقب الوزراء عليه حتى إن التاريخ يذكرنا أن الحال قد وصل في فترة من الفترات بتبديل الوزير اسبوعيًا وأحيانًا يوميًا! وهو ما أدى بالضرورة إلى عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد.
أما عن السبب الثاني هو الحرب التي دارت بين الجنود وبعضهم البعض، حيث أن الجيش الفاطمي يتألف من الأجناد التركية الذين تحالفوا مع جنود البربر وطردوا الأجناد السودانية من القاهرة إلى الصعيد، وحين وصل الأجناد السودانية إلى الصعيد عاثوا فيها فسادًا وعملوا على نشر الفساد وتعمدوا إفساد نظام الري لنشر القحط أكثر مما كان بسبب انخفاض منسوب المياه، أما عن الأتراك فلقد غدروا بالبرابرة وطردوهم من القاهرة إلى وجه بحري وسيطر الأتراك على القاهرة ونهبوا قصور الخليفة وأسرته وتقطعت أوصال المحروسة وانقطعت طرق نقل البضائع فبدأت المجاعة الكبري. كل هذه الأسباب بالإضافة إلى السبب الرئيسي وهو انخفاض منسوب المياه اللازمة للزراعة.
سنين عجاف
لم يعرف المصريين سنين عجاف كهذه السبعة التي أذلتهم، لم تعد هناك حياة كما يعرفها البشر فلقد فقد المصريين الغلة والقمح واللحوم وغيرها من صنوف الطعام. كانت الشدة المستنصرية ضربًا من ضروب الخيال التي يعجز العقل البشري عن تصديقها، فلقد أكل المصريين الميتات والجيف حتى أصبحت الكلاب والقطط تباع بأسعار باهظة لا يقوي عليها إلا كل ثري. وبعد فترة ليست بكبيرة اختفت الكلاب والقطط من الشوارع، أما عن سعر رغيف الخبز فلقد بلغ خمسة عشر دينارًا وثمن البيضة الواحدة من بيض الدجاج عشرة قراريط أما رواية الماء فقد بلغت سعرها دينارًا.
أصبحت الأملاك كافة غير قادرة على شراء الموارد التي أصابتها الندرة وهو مبدأ اقتصادي معروف. ذٌكر أن وزير الدولة ذهب في التحقيق في إحدى الوقائع وعندما خرج لم يجد بغلته فلقد خطفها الناس وأكلوها، أما الطامة الكبري فهي أن الناس بدأت تأكل بعضها البعض.
ولأول مرة في تاريخ المحروسة أكل المصريون بعضهم، بدأت هذه الفاجعة بعد حدوث واقعة سرقة بغلة الوزير، فلقد ألقى الوزير القبض على ثلاثة ممن أكلوا بغلته وقام بصلبهم وعند الصبيحة لم يتبق من هذه الأجساد سوي العظام حيث التهم الناس لحومهم من شدة الجوع. وذٌكر أن هنالك زقاق يسمي بزقاق القتل كانت المنازل فيه منخفضة فعمل سكانها على إنزال الخطاطيف يصطادون بها المارة ومن ثم أكلهم. وصل الناس إلى درجة بيع كل ممتلكاتهم من أجل الحصول على الطعام فلم تعد للأموال فائدة أمام نُدرة الموارد، فلقد ذُكر أن النساء كُن يبعن مجوهراتهن الثمينة من أجل الحصول على قليل القليل من الطعام.
واقعة المرأة
كانت هناك واقعة شهيرة ذكرها لنا التاريخ الأسود ، عن امرأة باعت عقدًا ثمينًا لها قيمته بحدود الألف دينار ، لتحصل على القليل من الدقيق لكن الناس نهبوه منها وهي في طريقها إلى المنزل ولم يتبق لها من الدقيق سوى ما يكفي لخبز رغيف واحد، فأخذت هذا الرغيف ووقفت على مكان مرتفع وصاحت بأعلى صوتها (يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر بالله الذي أسعد الله الناس في أيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار).
ووصلت الأزمة إلى المستنصر نفسه، فلم يعد هناك في حظيرته من الدواب شيء وباع رخام قبور آباءه وأجداده من أجل الحصول على الطعام ووصل الحال إنه أصبح مدينا بحياته لأبنة أحد الفقهاء التي اطعمته تصدُقا برغيفين يوميا. مات ثلث سكان المحروسة وبيعت بيوت ثمينة لشراء أرغفة العيش وطحنت المجاعة بالشعب أكثر وأكثر حتى وصل السيل الزبى. لم يستطع الخليفة التحمل أكثر، لذلك طلب يد العون من (بدر ابن عبد الله الجمالي) بعد أن فقد العديد من البلدان التي كانت تحت ملكه وانخفضت عدد المدن بعد أن انفصلت العشرات.
انتهاء الأزمة
انتهت الشدة المستنصرية على يد (الجمالي) الذي اشترط أن يأتي برجاله وأن يفرض سلطته وأن يعيد الأمور إلى نصابها بقوة السلاح وهو ما وافق عليه المستنصر. بعد أن عُين (الجمالي) وزيرًا للدولة عمل على إصلاح نظام الري وقنوات الري التي فسدت وبالتالي اهتم بالزراعة بعد أن قام بمحاربة الجند المتناحرة وطردهم من المحروسة. جعل المحصول كله للفلاحين أول ثلاث سنوات ثم سيجبي في السنة الرابعة.
وعُرف عن (الجمالي) إنه كان رجلًا عادلًا مد يده إلى الدولة الفاطمية ونفض من فوقها تراكمات الزمن العصيب وأفاقها من كبوتها. منَّ الله أخيرًا وبعد سبع سنوات عجاف على مصر بأن فاض نهر النيل من جديد وانقشعت هذه الغمة. خلد المصريين ذكرى الوزير (الجمالي) بأن أطلقوا اسمه على أحد أشهر المناطق والأحياء الخالدة في المحروسة وهو حي (الجمالية)