الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. أيمن يوسف يكتب: المناعة البكتيرية على طاولة نوبل (2)

د. أيمن يوسف
د. أيمن يوسف

حدثت طفرة في علوم الحياة منذ العام 2012 على يد التحرير الجيني وتقنية كريسبر كاس9، وأصبح السباق على مستوى المعامل والأبحاث والوزارات المختصة وشركات الأدوية يسير بعجلة تسارع كبيرة نحو تطبيقات أوسع في كافة المناحي من أجل التشخيص الدقيق لكثير من الأعراض وقيادة حملات الوقاية من الأمراض باستخدام تلك التقنية وإنتاج أدوية وفرت علاجات نهائية لما كان حتى الأمس القريب نهاية مطاف للمصاب، بل امتدت تأثيرات تلك المغامرة إلى أبعاد اجتماعية وبيئية وقانونية وتشريعية غيرت الحياة في دول العالم الأول التي تبحث عن القدرة وصياغة ميكانيزمات القوة الشاملة للدولة من خلال العلم وبتطوير الصحة والزراعة ورفاه المجتمعات بالوقاية من المهددات والمخاطر البيولوجية، أتاحت تلك التقنية إعادة كتابة الشيفرة الجينية، وانبثقت منها منذ العام 2017 ثلاث ثورات رئيسية هم ثورة تحرير القواعد النيتروجينية المفردة التي لا تتضمن قطع الحمض النووي بل تلجأ الى استخدام التفاعلات الكيميائية لتغيير حروف الشيفرة الوراثية، وكان الصينيون أصحاب الريادة في استخدام تقنية تحرير القواعد النيتروجينية لاصلاح الطفرات المسببة لثلاسيميا الدم من النوع بيتا في الأجنة البشرية، وكذلك ثورة الدفع الجيني التي لها القدرة على دفع جينات خاصة في الكائنات الحية  تعتمد على قدرة خاصة على الانتشار التفضيلي عبر الأجيال مع تنحية التحورات الجينية الضارة، وأخيرا ثورة تحرير الجينيوم الفوقي الذي لا يزيل الجينات ولا يستبدلها بل يقوم بتثبيط عملها بشكل موجه دون المساس بباقي الشريط النووي.

 

لعل التقنية الأولى تقنية تحرير القواعد النيتروجينية المفردة هي التقنية الأكثر رواجا وتطبيقا واسهاما في الحصول على نتائج ملموسة حتى الآن، نظرا ليسر تطبيقها عبر الاستفادة من منجز المقص الجيني تحرير الجينات ومن خلال اعتمادها على استبدال قاعدة نيتروجينية واحدة بدلا من استبدال امتدادات طويلة من المادة الوراثية، قادت هذه الجهود جامعة هارفارد ونشرت أول نتائجها عن هذه الثورة في دورية "نايتشر" NATURE عام 2016، حيث يفيد هذا الأسلوب في حالات الطفرة في قاعدة واحدة نتيجة الخطأ في نسخ المادة الوراثية أثناء عملية الانقسام الخلوي، وهي الطفرات الموجودة بشكل أساسي في الأورام السرطانية ويؤكد نمط وجودها بهذا الشكل المفرد في قاعدة واحدة مشروع ICGC لسلسلة جينيوم السرطان.

 

ذيع صيت تقنية تحرير القواعد النيتروجينية المفردة بشكل أكبر بعد أن استطاعت تلك التقنية من تحقيق شفاء كامل لطفلة من أسرة إنجليزية مريضة بسرطان الدم الليمفاوي الحاد، وذلك بعد أن طور علماء بريطانيون بمستشفى جريت اورموند ستريت بلندن علاج مبني على تقنية تحرير القواعد النيتروجينية، يعرف سرطان الدم الليمفاوي الحاد بمرض لوكيميا الخلايا التائية الليمفاوية الحادة ويعرف بمرض ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد، وهو نوع من أنواع السرطانات التي تحدث نتيجة خلل في أحد نوعي خلايا الدم البيضاء الخلايا التائية T-cells، وينتج عنه انتشار واسع لتلك الخلايا وزيادة كبيرة في عددها حتى يصبح لون الدم ابيض بالكامل، لم تنجح كل المحاولات التقليدية مع الطفلة الإنجليزية ذات الثلاثة عشر ربيعا في تحقيق أي تقدم بما في ذلك زرع النخاع والعلاج الكيميائي وغيره، ولم يجد المتخصصون بدا سوى استثمار ثمرات تقنية التحرير الجيني التي تطورت مع تقنية تحرير القواعد النيتروجينية كجيل مطور من المقص الجيني، قام فريق العلماء والأطباء بثلاث تعديلات على الخلايا التائية الطبيعية باستخدام تلك التقنية حيث قام التعديل الأول بوقف مهاجمة الخلايا التائية للخلايا والأجسام الأخرى بشكل كامل، وقام التعديل الثاني بإزالة المركب المميز لهذا النوع من الخلايا، ومن ثم قام التعديل الأخير بحماية هذه الخلايا من الموت بالعلاج الكيميائي، فيما الخلايا الجديدة تم تعديلها تعديل أخير بجعلها تهاجم كل خلية تائية طبيعية أو مختلة كي تقتلها في جسم الطفلة، وذلك عن طريق تعرف الخلايا الجديدة على المركب المميز للخلايا التائية وقتل أي خلية تحتوي عليه، وكنتيجة لهذه المعاملة قضت الخلايا الجديدة علي جميع الخلايا التائية في الدم، ثم تمت زراعة نخاع جديد للطفلة أنتج خلايا تائية سليمة.

 

من كان يعلم منذ أن بدأت الرحلة في اكتشاف النظام المناعي للبكتيريا لغرض علمي يبدو بسيطا وهو تطوير جيل جديد من المضادات الحيوية يحمي الإنسان أنه قد يقود إلى مغامرة أكثر اتساعا وإلهاما في تطوير حياة البشرية وفي تعزيز العلوم، وكيف ألهمت تلك الدفاعات المناعية الوراثية في هذه الكائنات البدائية البسيطة مخيلة الانسان من اجل محاكاة شريطها النووي وبروتيناتها وانزيماتها كي يقص ويلصق من شريطه النووي هو ومن شريط الكائنات الحية الأخرى ما قد يعالجه ويحميه ويعزز من مكتسباته في معركة الاستمرار والبقاء على كوكب الأرض، وكيف غزت البكتريا لان ومكاتب جائزة نوبل من قلب سويسرا كي ينحنى العالم للشريط النووي "الذكي" للبكتريا الذي على ما يبدو اكثر ذكاء من الشريط النووي للإنسان.