هل يجوز خروج المعتدة من وفاة لأداء الحج .. سؤال تلقته دار الإفتاء، يقول صاحبه: قامت والدتي بتقديم أوراق الحج قبل وفاة والدي، وبعد الوفاة حصلت على التأشيرة الخاصة بالحج، وقامت بدفع الرسوم، ولن تستطيع استردادها حال عدم ذهابها،مع العلم أنَّ والدي لم يمانع سفرها إلى الحج؛فما حكم خروجها لأداء الحج أثناء العدة؟
خروج المعتدة من وفاة لأداء الحج
وذكرت دار الإفتاء في ردها: أنه مِنالمقرر شرعًا أنَّه يجب على المرأة المتوفَّى عنها زوجُها أنْ تتربص وتعتد أربعة أشهرٍ وعشرة أيامٍ؛ لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَٱللهُبِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: 234].
وأضافت أن جماهير الفقهاء اتفقوا على أنَّ السُّكنَى مِنلوازم الاعتداد؛ فتمكث المعتدة مدة عدتها في بيتها؛فلا تخرج لحجٍّ ولا لغيره؛ واستدلوا على ذلك بحديث الفُرَيعةِ بنتِ مالِكِ بنِ سِنانٍ -وهي أُختُ أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ رضي الله عنهما-: "أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَمَرَها أَن تَمكُثَ في بيتها حتى تَنتَهِيَ عِدّتُها"رواه الإمام مالِكٌ في المُوَطَّأِ، والشّافعيُّ عنه، وأَحمَدُ وأَبُو داوُدَ والتِّرمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابنُ ماجه وصححه ابنُ حِبّانَ والحاكِمُ.
ونُقِل عن بعض السلف مِن الصحابة والتابعين: أنَّ السُّكنى ليست مِن العدة؛فيجوز للمعتدة أنتعتدَّ حيث شاءت، ولا يحرُم عليها أنتحجّ أو تعتمر في عدتها؛ رُوِيَ ذلك عن سيدنا علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأم المؤمنين عائشة، وجابر بن عبد الله، رضي الله عنهم،وبه قال الحسن البصري، وجابر بن زيد، وعطاء بن أبي رباح، وإليه ذهب الظاهرية.
وحجتهم: أنَّ الآية دلَّت على وجوب العدة لا على وجوب السُّكنى للمعتدة.
وأجابوا عن الحديث بأنَّه ضعيف، وأنَّه على فرض صحته فإنَّه واقعة عين.
وقد نصَّ العلماء على أنَّ مِنْ شرط الحج للمرأة ألا تكون في عدّة وفاة أو طلاق؛فإنخالف وحجَّت صحَّ حجُّها وكانت آثمة.
واستثنى الفقهاء مِنذلك: ما إذا كانت المرأة قد أحرمَت بالحجّ، أو كانت قد سافرت.
فنصّ فقهاء الحنفية: على أنَّها إنكانت حين مات زوجها مسافرةً وكان بينها وبين مصرها مدةُ سفر –أي: ثلاثة أيامٍ فأكثر-، فإنَّها ترجع إلى بيتها لقضاء مدة العدة، وإنكان بينها وبين مقصدها أقل من سفر ثلاثة أيام مضت إلى مقصدها.
وعند المالكية: أنَّها إنمات زوجها وقد خرجت لحجة الإسلام، وكان بعدُها عن منزلها أربعة أيام فأقل رجعت وجوبًا؛ لتعتدَّ بمنزلها إن بقي شيء من العد، فإنزاد على هذا لمْ ترجع بل تستمر.
وعند الشافعية: أنَّها إنكانت مسافرة فمات زوجها؛ فلها الخيار في أنتمضي لسفرها ذاهبة وجائية، وليس عليها أنترجع إلى بيته قبل أن تقضي سفرها.
وعند الحنابلة:قال الإمام ابن قدامة الحنبلي [ت620هـ]في "المغني" (8/ 168، ط. مكتبة القاهرة):[ولو كانت عليها حجة الإسلام، فمات زوجهالزمتها العدة في منزلهاوإنفاتها الحج؛ لأنَّ العدة في المنزل تفوت، ولا بدل لها، والحجّ يمكن الإتيان به في غير هذا العام.
وإنمات زوجها بعد إحرامها بحجّ الفرض، أو بحجٍّ أذن لها زوجها فيه، نظرت؛ فإن كان وقت الحجّ متسعًا، لا تخاف فوتهولا فوت الرفقةلزمها الاعتداد في منزلها؛ لأنَّه أمكن الجمع بين الحقين، فلم يجز إسقاط أحدهما، وإنخشيت فوات الحجلزمها المُضِيّ فيه،وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يلزمها المقام وإنفاتها الحجّ؛ لأنها معتدة، فلم يجز لها أن تنشئ سفرًا؛كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها.
ولنا: أنَّهما عبادتان استويا في الوجوبوضيق الوقت؛فوجب تقديم الأسبق منهما؛كما لو كانت العدة أسبق؛ ولأنَّ الحج آكد؛ لأنَّه أحد أركان الإسلام، والمشقّة بتفويته تَعْظُم؛فوجب تقديمه كما لو مات زوجها بعد أنبَعُدَ سفرها إليه]اهـ.
وقال الإمام أبو المظفر بن هُبَيرَة الحنبلي [ت560هـ]في كتابه "اختلاف الأئمة العلماء" (2/ 199، ط. دار الكتب العلمية): [واختلفوا في المتوفى عنها زوجها وهي في الحج: فقال أبو حنيفة: يلزمها الإقامة على كل حال إنكانت في بلد أو ما يقاربه،وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا خافت فواته إنجلست لقضاء العدة جاز لها المضيُّ فيه]اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما دامت والدة السائل قد سدَّدت رسوم الحجّ ونفقاته ومصروفاته، ولم يَعُدْ بإمكانها استردادُها، فإنَّه يجوز لها أنْ تسافر للحجّ في العدة؛ لأنَّ اختيارها والإذن لها بالسفر، ودفعها لنفقات الحج الباهظة التي لا تُسْتَرَدُّ هو بمثابة دخولها في السفر ومُضِيِّها فيه، والرخصة في ذلك كالرخصة عند خوف فوت الرفقة، ودرء المشقة الحاصلة مِنْ تفويت الحج أعظم مِنْ جلب مصلحة الاعتداد في المنزل؛فكان تقديم الحج أَوْلَى لا سيما وقد دخلت في مقدماته في حياة الزوج وبإذنه، ولا يخفى أنَّ مِنْ مقاصد الشريعة الغرَّاء رفع الضرر عن المكلفين ودفع المشاقِّ عنهم؛وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ "المشقة تجلب التيسير"، وأنَّه "إذا ضاق الأمر اتسع".
وأضافت دار الإفتاء أنَّ ضياع هذا المبلغ المالي الباهظ عليها هو ضررٌ يجب رفعه، ومشقة تستوجب تيسيرًا؛وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ "الضرورات تبيح المحظورات"، وأنَّ "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة"، وسفر المعتدة للحجّ وإنكان محظورًا في الأصل إلا أنَّ الحفاظ على المال الذي دفعته في نفقات الحج هو ضرورة تبيح هذا المحظور؛ لأنّ المال مِنالكليات الخمس العليا التي يجب الحفاظ عليها في الشريعة الإسلامية.