غيرت جائحة كورونا التي ظهرت في 2019، الكثير من حياة البشر حول العالم، سواء اجتماعياً أو مهنياً، فإذا تناولنا الشق المهني، فقد ساعدت الجائحة والقيود التي فرضت للحد من انتشارها بين الناس على ظهور أسلوب جديد للعمل حتى أصبح ظاهرة لها مميزات وسلبيات أيضاً "العمل عن بُعد".
العمل عن بعد
وتتنافس شركات التكنولوجيا لاستقطاب أصحاب المواهب، لكن العمل بات يحصل عن بُعد، والموظفون يكونون أحياناً في الجانب الآخر من العالم ولم تعد هناك حاجة حتى لتوفير مكاتب للموظفين.
[[system-code:ad:autoads]]
وغادر شخص يدعى نيكولا بيسيمييه موطنه للإقامة في رينو بولاية نيفادا، من أجل وظيفة عن بُعد بالكامل، وبعد صرفه من جوجل التي أعلنت أخيراً الاستغناء عن 12 ألف وظيفة، لم يجد بيسيمييه صعوبة في إيجاد شركة جديدة مهتمة بالاستفادة من مهاراته في تطوير البرمجيات.
وقال بيسيمييه إن العمل عن بعد يعطينا إمكانية اختيار المكان الذي نريد الإقامة فيه، مع حرية تغييره في حال غيّرنا رأينا بعد شهرين.
وأضاف نيكولا بيسيمييه: "كانت لدي خيارات وظيفية كثيرة بعد ترك غوغل، وبالنسبة لي، كانت إمكانية العمل بالكامل عن بعد عاملاً مهماً" في اختيار الوظيفة الجديدة.
يوجد أيضاً شخص يدعى جوردان بيتييه، والذي يبلغ من العمر 35 عاماً ويعمل مطوراً معلوماتياً بشركة جورجياس الفرنسية الأمريكية العاملة في مجال التجارة الإلكترونية، وهو يعمل أيضاً من منزله، في مدينة جرونوبل في جبال الألب الفرنسية، وهو ما يصفه بأنه إطار "أكثر ملاءمة للحياة العائلية" مقارنة مع باريس.
ويقول: "لقد تحدثت إلى مديري عن نقل مقر إقامتي، فلم يكن لذلك أي أهمية لديه لأني أعمل عن بُعد بصورة كاملة".
ويقول لابير: "اختيار العمل عن بعد بالكامل سمح لنا بتسريع عملية التوظيف في وظائف الهندسة وتطوير المنتجات.. يمكننا تالياً الإفادة من مجموعة أوسع من المواهب"، مع طريقة تنظيم هجينة تجمع العمل عن بُعد بصورة كاملة أو جزئية تبعاً للمناطق.
وفي هذا النوع من العمل، بات تناول القهوة والحلويات مع الزملاء من الماضي، وحلت محله الاجتماعات عبر الشاشات. هذا الاتجاه ليس جديداً تماماً في المهن التقنية، لكنه اكتسب زخماً منذ جائحة كوفيد.
التغيرات المناخية
كما أن موجات الصرف الكثيرة التي أعلنتها شركات التكنولوجيا الكبرى لا تغير شيئاً، بحسب متخصصين في القطاع يرون أنها وسيلة للشركات للتميز في البحث عن المواهب.
ويتيح تنظيم العمل هذا أيضاً إمكانية التوظيف بأجور أقل بكثير، على سبيل المثال، بحسب تقرير صادر عن شركة "غارتنر" الأميركية في عام 2022، يتقاضى مهندس البيانات 17400 دولار سنوياً في نيودلهي، مقارنة بـ187 ألف دولار في سان فرانسيسكو.
قال سيريل دوبوي، بشركة "ميريتيس" الاستشارية: "من قبل، كانت الشركة تتخذ كل الإجراءات اللازمة لاستقدام موظف من بلد آخر، مع كل ما يترتب على ذلك من تأخيرات إدارية. لكنّ إمكانية العمل عن بعد بالكامل حطمت الحواجز المرتبطة بالإجراءات الإدارية، وبات يمكن القيام بكل شيء عن بُعد، حتى من مناطق بعيدة للغاية".
ولكن لهذه الطريقة أيضاً عيوبها، مثل صعوبة دمج الموظفين المبتدئين، وثقافة الشركة التي يصعب نقلها أو الجداول الزمنية المتداخلة للغاية. وقد عانى جوردان بيتييه من هذه العقبات، عندما كان يدير "فريقاً من الموظفين في باريس وكيبيك وبوخارست وسياتل".
ويقول: "كانت لدينا فروق في التوقيت تصل إلى عشر ساعات من الشرق إلى الغرب. لقد كان الأمر متعباً". وبنتيجة ذلك، بدأ القطاع في التوظيف تبعاً للمناطق الزمنية، من أجل مزيد من السلاسة في العمل.
ووفقاً لتحليل قام به مركز "لايبنيتس" الألماني للأبحاث الاقتصادية الأوروبية، انخفض التنقل في الضواحي والمدن التي توجد بها شركات تتمتع بمستوى عال من الرقمنة بشكل حاد أكثر من غيرها في العامين الأولين من جائحة كورونا، لكن بعد انتهاء الإلزام بالعمل من المنزل والتدابير الخاصة بكورونا الأخرى في مارس 2022، لم يعد من الممكن إثبات هذا التراجع.
وقالت الباحثة في المركز والمشاركة في الدراسة، يانا أكسنبيك: "حتى لو قام العديد من الموظفين بتغيير سلوك تنقلهم من خلال العمل من المنزل، فإن هذه التغييرات في السلوك لا تقلل بالضرورة من إجمالي المسافات المقطوعة".
وأشارت إلى أن العديد من الموظفين يغادرون المنزل خلال العمل، على سبيل المثال للقيام بمهمات أو من أجل مواعيد.. هذا هو السبب في أنه من المهم تعزيز التنقل الصديق للبيئة والمحايد للمناخ أكثر من الأمل في تقليل الذهاب إلى العمل عبر العمل من المنزل".
تغير نظرة العالم
وقال الباحث المشارك في الدراسة، دانييل إردزيك: "وفقا لنتائجنا، فإن الرقمنة لديها القدرة على تقليل حجم حركة المرور، وقد تم استخدام هذه الإمكانية بالفعل خلال مرحلة الذروة للجائحة".
وساعدت سرعة شبكة الإنترنت على ظهور أسلوب جديد للعمل عن بعد، يطلق على من يطبقونه اسم "الرحالة الرقميون"، الذين لم تعد الدول تنظر إليهم على أنهم مسربين من سوق العمل، ولكن أصبحت النظرة لهم كرواد لنمط جديد في الحياة.
وتعد كيب تاون في جنوب افريقيا، "عاصمة للرحالة الرقميين" في القارة السمراء، حيث تتيح بنية تحتية موثوق فيها، بما في ذلك شبكة إنترنت فائقة السرعة، إلى جانب الشواطئ والجبال ونوعية من الأطعمة عالية الجودة رخيصة السعر.
كما تعد نيروبي مقصدا آخرا في افريقيا يلقى إقبالا، وهي أيضا نقطة بدء جيدة لفرص القيام برحلات السفاري العديدة في كينيا.
وقامت مؤخرا دول مثل ناميبيا والإكوادور وبليز وماليزيا وألبانيا، بإصدار تأشيرات لاجتذاب الرحالة الرقميين، وفي أوروبا قلدت هذا الاتجاه كل من مالطا وكرواتيا وجمهورية التشيك واستونيا واليونان والمجر.
وذلك لعدة أسباب؛
- الرغبة في تعويض خسارة السياح خلال فترة تفشي جائحة كورونا.
- جذب العاملين كتعويض عن نقص الأيدي العاملة الماهرة لديها، وأيضا لما تعانيه من تزايد معدلات الشيخوخة بين سكانها.
وفقاً دراسة حديثة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، في أبريل 2023، ربما يدفع الموظفون الذين يعملون عن بُعد غرامة مهنية خفية مقابل تلك المرونة، وفقًا لورقة عمل من الاقتصاديين في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك وجامعة أيوا وهارفارد.
ووجدت الدراسة أن العمل عن بعد، في ما يتعلق بقطاع الهندسة والتكنولوجيا على سبيل المثال، عزز إنتاجية كبار المهندسين، لكنه أيضًا قلل من كمية التوجيهات والتعليقات الإرشادية التي تلقاها صغار المهندسين، وكان بعض المهندسين المبتدئين أكثر عرضة لترك شركاتهم، كما تراجعت نسبة تطور المهندسات الإناث بالتحديد.
كما أثبت البحث أن التوجيه والتدريب الذي يحصل عليه الموظفون بشكل شخصي ومباشر من الصعب تنفيذه من خلال تطبيقات المحادثة مثل "زووم وسلاك"، وكذلك فإن الاجتماعات وجهًا لوجه مختلفة تمامًا عن "فيس تايم"، مؤكدا أنه من الصعب تكرار فرص التدريب المهني والتعلم التي تأتي من التفاعلات الشخصية، بحسب الصحيفة.
التدريب المهني
وذكرت الدراسة، بحسب "واشنطن بوست"، إلى أن عقوبة العمل عن بعد قد تكون أكبر بالنسبة للنساء والشباب والأشخاص الملونين، الذين غالبًا ما يفتقرون إلى الشبكات المهنية التي يمكن أن يساعد التواجد في المكتب في توفيرها.
لكن العديد من الدراسات الاستقصائية وجدت أن نفس هذه المجموعات هم أيضًا الذين يفضلون مرونة العمل عن بعد أكثر من غيرهم، والأقل احتمالًا للعودة إلى المكتب، أكدت أيضاً الدراسة التأثير السلبي للعمل عن بعد على التطور الوظيفي، وأوضحت أن ثمن المرونة قد لا يكون واضحًا للعمال أو الشركات إلا بعد مرور سنوات، عندما تظهر التفاوتات في الأجور أو الترقية.
وبالنسبة للجانب الاقتصادي، يعتبر العمل من المنزل من أعلى العوامل التي توفر الإنفاق المؤسسي، حيث ذكرت وكالة "بلومبرج"، أن عمل موظفي الحكومة الفيدرالية الأميركية من المنزل بعد وباء كوفيد أسهم في خفض الانفاق الحكومي على تكاليف العقارات المرتفعة وتكاليف الطاقة بعد تقليل أعداد المكاتب الفيدرالية.
لكن على الجانب الآخر، ذكرت الوكالة أن العمل من المنزل يعني تنقلًا أقل إلى مناطق المكاتب، مع انخفاض متوازي في نسب التوظيف في المطاعم وتجار التجزئة ومقدمي الخدمات الآخرين هناك.
وأوضح أن العاصمة الأميركية، واشنطن، تضررت بشكل خاص، مع انخفاض بنسبة 4.6 في المئة في التوظيف منذ فبراير 2020، أي ما يقرب من أربعة أضعاف الانخفاض بنسبة 1.2 في المئة في مدينة نيويورك. ولا تتوفر أرقام الوظائف في الوقت المناسب لمعظم المدن الأميركية الأخرى، لكن من بين أكبر 15 منطقة مترو، سجلت منطقة واشنطن ثاني أسوأ أداء وظيفي.
وفي ما يتعلق بالجانب النفسي، أوضحت "نيويورك تايمز"، في 14 مارس، أنه رغم أهمية الإنتاجية، تحدثت العديد من الدراسات عن الآثار الصحية السلبية المحتملة للعمل عن بُعد بالنسبة لبعض الأشخاص، سواء بالنسبة لصحتهم العقلية أو البدنية.
ووجدت مجموعة حديثة من الدراسات التي تبحث في الآثار العقلية والبدنية للعمل عن بعد نتائج مختلطة، بحسب الصحيفة، إذ ازدهر أداء بعض العمال، بسب توفر مزيد من الوقت للسلوكيات الصحية، بما في ذلك ممارسة الرياضة والتواصل مع الأسرة، بينما أصبح آخرون أقل نشاطًا واكتسبوا وزنًا وأصيبوا بالعزلة والاكتئاب.
وأوضحت الدراسات أن البشر يحتاجون إلى الحركة، ويوجد دليل قوي يربط بين زيادة الحركة وانخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية مثل ارتفاع ضغط الدم وارتفاع الكوليسترول، والأمراض المزمنة مثل مرض السكري وأنواع معينة من السرطان، وحالات الصحة العقلية، بما في ذلك الاكتئاب والقلق، وفقا للصحيفة.
الجانب النفسي
وأكدت الدراسات التي نقلتها الصحيفة أنه كلما تحركنا أكثر، أصبحنا أكثر صحة، لأن التحرك كل يوم لا يجعلنا نشعر بالتحسن فقط، بل هو من بين أكثر أشكال الطب الوقائي فعالية وبعيدة المدى. علاوة على ذلك، يرتبط النشاط الخامل ارتباطًا وثيقًا بالمرض، لأنه كلما زاد وقت الجلوس وقلت الحركة طوال اليوم، كان الخص أكثر عرضة للإصابة بالأمراض.
وأظهرت البيانات المتعلقة بعدد الخطوات أثناء الجائحة انخفاضًا في سلوك (التوليد الحراري للنشاط غير التدريبي)، أي الخطوات اليومية الطبيعية وليست خطوات التمرين، مثل خطوات المشي إلى الغداء، وصعود الدرج في العمل، والسير إلى مترو الأنفاق أو عبر موقف السيارات، وفقا للصحيفة.
وأظهرت الدراسات زيادة معدلات الاكتئاب والقلق أثناء العمل عن بعد حتى لو كان الأمر أسهل، إذ يتولد شعور بالعزلة يتطور عندما يتم استبدال التواصل الشخصي الحقيقي بالتفاعل الافتراضي.
ووفقاً لدراسة حديثة، فقد أثر العمل عن بُعد سلباً على النساء أكثر من الرجال، حيث كشفت نتائج دراستين، الأولى أجريت في الصين خلال جائحة كورونا شملت 172 من المتزوجين، والأخرى شملت 60 مشاركًا في كوريا الجنوبية، أن الرجال والنساء المتزوجين قاموا بالمزيد من المهام المتعلقة بالأسرة عندما كانوا يعملون بمفردهم في البيت بدل المكتب، لكن النساء قمن بإنجاز عدد أكبر بكثير من المهام المتعلقة بالأسرة عندما عملن مع أزواجهن في نفس الوقت معًا من المنزل.
فلم تتناقص المسؤوليات الأسرية للنساء لمجرد أن شريكهن كان أيضا في المنزل. وبالنسبة للنساء كانت الأولوية للأنشطة المتعلقة بالأسرة مقارنة بالواجبات المهنية، أما فيما يخص الرجال فكان العكس هو الصحيح، يضيف الموقع الألماني "إيلتيرن".
كما عبرت النساء المشاركات في الدراستين عن شعورهن بالذنب لأنه بسبب عدم قدرتهن على قضاء المزيد من الوقت مع أسرهن، لما كنّ يعملن من البيت بدل الذهاب إلى مقر العمل.
وتؤكد دراسة أخرى ميل النساء إلى الشعور بالذنب بسبب "عدم تحقيق العدالة" لأسرهن، وينصح الخبراء النساء بالمزج بين العمل من البيت والعمل من المكتب لتفادي الضغط والإجهاد.