الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (12) .. أنعمتَ عليهم

د. محمود الهواري
د. محمود الهواري الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية

أشرنا في لقاءٍ سابقٍ من أنوار الفاتحة إلى أنَّ المسلم يدعو ربَّ العالمين في كلِّ ركعةٍ من ركعات صلواته أن يهديَه الصِّراطَ المستقيمَ، وأنَّه يظلُّ يطلب هذا الطَّلبَ عمرَه كلَّه، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أنَّ طلبَ الهداية لا ينقطع عن الإنسان ما دام حيًّا.


واليوم ننظر ونتأمَّلُ في بقيَّة أنوار الآية، يقول الله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ وهذا التَّرتيب القرآنيُّ عجيبٌ، فهو يكشف عن رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه؛ إذ أنَّه لم يَدَعْهم أسرى لحيرةِ الفكرِ في تحديد هذا الصِّراط الَّذي يطلبون، ولم يتركهم في غموضٍ ولَبْسٍ من أمره، وإنَّما حدَّد لهم هذا الصِّراطَ المستقيمَ ووصفه فقال: ﴿صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.


فسبحانه من ربٍّ عظيمٍ يهدي للصَّالحات، ويتقبَّلها ممَّن يفعلُها ويثيب عليها؛ فبعد أن بيَّن ربُّ العالمين للإنسانِ صفة الصِّراط الَّذي يجب أن يدعوَ به استجاب له وتقبَّل منه، فهو المنعم أوَّلًا والمتفضِّل آخرًا، فأنعم به من ربٍّ عظيمٍ.


ويؤيِّد هذا حديث سيِّدِنا رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَالَ: «هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» [صحيح مسلم].
وليس العجبُ هنا من ربٍّ غنيٍّ يتودَّدُ لعبدٍ فقيرٍ؛ وإنَّما العجبُ الأكبرُ من هؤلاءِ الَّذين أنعم الله عليهم، وجعلهم علامةً على الصِّراط المستقيم
فمَن هؤلاء الَّذين أنعم الله عليهم؟ وما هذه النِّعمةُ الَّتي استحقَّ أهلُها أن يوصفوا بها؟


معنى النِّعمةِ كما تشير المعاجمُ العربيَّةُ يدور حول ترفُّهٍ، وطيبِ عيشٍ، وصلاحٍ. 
وكلمة النِّعمة وما اشتقَّ منها وردت في القرآن في ثمانيةٍ وثلاثين ومائةِ موضعٍ، بعضها أفعالٌ، كما في الآية الَّتي معنا من سورة الفاتحة، وأغلبها أسماء كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.


ومعنى النِّعمةِ في القرآن متفاوتٌ فتارة يُقصدُ بالنِّعمة الإسلام كما في قوله تعالى: ﴿ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب﴾ [البقرة:211]. يعني ومن يبدِّل الإسلام وما جاء به من شعائر.
وتارةُ يُقصد بالنِّعمة سيِّدُنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يعرفون نعمت الله ثمَّ ينكرونها﴾ [النحل: 83]، قال السُّدِّيُّ: يعني محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: يعرفون نبوَّته، ثمَّ ينكرونها، ويكذبونه.


وإذا كان سيِّدُنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم نعمةً فإنَّ نبوَّتَه في ذاتها والقرآنَ الَّذي أُنزل عليه نعمةٌ أيضًا، وفي هذا جاء قولُ الله تعالى: ﴿وأمَّا بنعمةِ ربِّك فحدِّثْ﴾ [الضُّحى:11]، فعن مجاهدٍ قال في قوله تعالى: ﴿وأمَّا بنعمةِ ربِّك فحدِّثْ﴾ قال: بالنُّبوَّة، وعنه أيضًا قال: بالقرآن.


وإذا كانت النُّبوَّةُ والقرآن من النِّعم فإنَّ الطَّاعات والعبادات الَّتي يُوفَّقُ لها العبادُ من النِّعم كذلك، وفي هذا يقول الله جلَّ جلاله: ﴿ومَن يطع الله والرسول فأولئك مع الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم﴾ [النساء: 69]، أي: مع الَّذين أنعم الله عليهم بهدايته والتَّوفيق لطاعته، وحسن عبادته.


ويُشارُ بالنِّعمة أحيانًا إلى ما يترتَّب على الطَّاعات من الثَّواب والجنَّة، وفي هذا يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يستبشرون بنعمةٍ من الله﴾ [آل عمران:171] قال القرطبيُّ: أي: بجنَّةٍ من الله، ويقال بمغفرةٍ من الله.
وفي مواطنَ غيرِ قليلةٍ يُشارُ بالنِّعمة إلى ما أنعم الله به على الإنسان من النِّعم الَّتي سخَّرها الله للعباد ممَّا في السَّموات والأرض ممَّا يكونون به في غنًى ورفاهيةٍ، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة﴾ [لقمان: 20].


وخلاصة ما وردت عليه النِّعمة في القرآن أنَّها الإسلامُ والإيمانُ، أو النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ونبوَّتُه والقرآنُ الَّذي نزل عليه، أو الطَّاعةُ والعبادةُ وما لهما من ثوابٍ، أو ما أنعم الله به على بني الإنسان ممَّا في السَّموات والأرض.


ولكن هل أصحابُ الصِّراطِ المستقيمِ هؤلاءِ هم الَّذين أنعم الله عليهم بنعمةِ النُّبوَّة والقرآن فاستجابوا لها وترجموها في طاعاتٍ وعباداتٍ؟ أو هم الَّذين أنعم الله عليهم بنعم الدُّنيا فشكروها واستعملوها في مرضاة ربِّ العالمين؟ والحقُّ أنَّه لا تناقض بين الفئتين؛ فإنَّ نعمةَ الدِّين والإيمان توجب الاتِّباعَ، ونعم الدُّنيا توجب الشُّكرَ، وإذا ما حصَّل الإنسان الأمرين كان من أهل الصِّراط المستقيم. 
فاللهمَّ اجعلنا ممَّن أنعمت عليهم بالإسلام والإيمان والقرآن والطَّاعات والعبادات، واجعلنا ممَّن أنعمت عليهم بنعم الدُّنيا الظَّاهرة والباطنةِ.