الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (11) الصراط المستقيم

د. محمود الهواري
د. محمود الهواري الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية

في كلِّ ركعةٍ من ركعات الصَّلوات: الفريضة والنَّافلة يسأل المسلمُ ربَّ العالمين أن يهديَه الصِّراط المستقيمَ، ويظلُّ يطلب هذا الطَّلبَ عمرَه كلَّه، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أنَّ طلب الهداية لا ينقطع عن الإنسان ما دام حيًّا؛ لأنَّ الإنسان لا يبلغ تمام الهداية، وما يغيب عن الإنسان من الحقِّ أكبر ممَّا يعرفه، وما يفوته من الطَّاعات أكثر ممَّا يفعله؛ لذلك كان طلب الهداية مستمرًّا مع الإنسان حياتَه كلَّها. 

لكن ما هذا الصِّراطُ المستقيمُ الَّذي شُرع للمسلمين أن يديموا طلبَ الاهتداء إليه؟

أهو طريقٌ خفيٌّ لا يعرف النَّاسُ معالمه؟

أو هو سلوكٌ صعبٌ لا يقدر النَّاسُ على الالتزام به؟

أو هو إيمانٌ راسخٌ يقتضي من أهله تبعاتٍ وأعمالًا؟

أو هو شيءٌ في الآخرة أحدُّ من السَّيفِ وأدقُّ من الشَّعرةِ؟

لقد بيَّنَ سيِّدُنا رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا الصِّراط، وكشف عن ملامحِه، وضرب المثلَ بشكلٍ يقرِّب المعانيَ المجرَّدةَ إلى الإدراك والحسِّ، يقول سيِّدُنا عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ السُّبُلُ ليس منها سبيلٌ إلَّا عليه شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» [الأنعام: 153]. 

وهذا الصِّراطُ المستقيمُ الَّذي ضرب له سيِّدُنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المثلَ هو الدِّينُ القويمُ والطَّريقُ الواضحُ الَّذي لا عوجَ فيه، والَّذي يجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يطلبَه وأن يلتزمَ حدودَه ولا يتجاوزَها.

وإذا التزمَ المسلمُ هذا الصِّراطَ في الدُّنيا نجا من مزالقِ صراطِ الآخرةِ، ولا يبعد أن يكون طلبُ الهداية إلى الصِّراطِ المستقيم يشملُهما معًا، يشملُ صراطَ الدُّنيا الَّذي هو الإسلام بأوامره ونواهيه، ويشملُ صراطَ الآخرةِ المضروبِ على متن جهنم والعياذ بالله والموصِّلِ إلى الجنَّةِ إن شاء الله.

والاهتداء إلى الصِّراطِ المستقيمِ غايةٌ شريفةٌ تُطلب؛ لما يترتَّبُ على بلوغِه من السَّعادةِ والفلاحِ والفوزِ والنَّجاحِ في الدُّنيا والآخرة، وبقدر اهتمامِ العبد بهذا الصِّراطِ علمًا وعملًا تكون سعادتُه، وبقدر إخلالِ العبد بهذا الصِّراطِ تكون الشَّقاوةُ والعياذُ بالله.

والدَّليلُ إلى هذا الصِّراطِ المستقيمِ هو سيِّدُنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، الَّذي أرسله الله جلَّ جلاله ليدعوَ النَّاسَ إليه وليبيِّن لهم معالمه وحددوه، يقولُ الله تعالى لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى:٥٢–٥٣].

ومن تمامِ نصحِ نبيِّنا صلَّى الله عليه وسَّلم وحسن بيانه لهذا الصِّراطِ ضرب الأمثالَ الموضِّحةَ والكاشفةَ، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن الله ضرب مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَفَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. وَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ».

في هذا الحديثِ تشبيهٌ للصِّراطِ بطريقٍ طويلٍ، على يمينه وشماله جداران ممتدَّان فيهما أبوابٌ كثيرةٌ، ليس لها أقفالٌ ولا مفاتيحُ، وإنَّما عليها ستائرُ فقط، فهي لا تجهدُ ولا تتعب مَن يدخلُها، ولكن مَن دخلها وقعَ في الحرام، وكأنَّها إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ قد يقعُ في الحرامِ بسهولةٍ إذا استجاب إلى دعاةِ الشَّرِّ، وانحرف عن الصِّراطِ المستقيمِ الواضحِ، فالواجب على الإنسانِ أن يجاهد نفسَه في الثَّباتِ على هذا الصِّراطِ حتَّى يسهلَ مرورُه على صراط الآخرة إلى الجنَّةِ.

والنَّاسُ في مرورهم على الصِّراطِ المنصوبِ على متن جهنم متفاوتون قوَّةً وضعفًا بحسب التزامهم بالصِّراطِ في هذه الحياة الدُّنيا؛ فمن النَّاسِ من يمرُّ على الصِّراطِ كالبرقِ، ومنهم من يمرُّ كأجاويد الخيل، ومنهم من يجري، ومنهم من يمشي، ومنهم من يحبو، ومنهم من يقع في النَّار، ونسأل الله السَّلامةَ.

ومن الملفت للنَّظر أنَّ الله أفرد كلمةَ الصِّراطِ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ الحقَّ طريقٌ واحدٌ. ووصفُ الصِّراطِ بأنَّه مستقيمٌ يدلُّ على أنَّه أقصرُ طريقٍ يوصِّلُ للحقِّ ويورثُ رضا الله والجنَّةَ.

أسأل الله جلَّ وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يهديَنا جميعًا صراطه المستقيم في الدُّنيا والآخرة، وأن يقيَنا جميعا من الزَّلل، وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير، وألَّا يكلَنا إلى أنفسنا طرفةَ عين؛ إنَّ ربي سميعُ الدُّعاء وهو أهل الرَّجاء