الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (10) اهدنا

د. محمود الهواري
د. محمود الهواري الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية

يصلِّي المسلم الفرائض سبعَ عشرةَ ركعةً، ويصلِّي النَّوافل خمسَ عشرةَ ركعةً، فهذه اثنتان وثلاثون مرَّةً كلَّ يومٍ يقرأ المسلم فيها بفاتحة الكتاب، ويطلب من الله أن يهديَه الصِّراط المستقيم، فيهتف قارئًا: ﴿اهدنا الصِّراطَ المستقيمَ﴾، فدلَّ هذا على أنَّ طلب الهداية أعظم وأشرف ما يُطلب؛ فما الهداية، وما علاماتها، وما عقباتها؟
فأمَّا الهداية فمن رحمةِ الله أنَّ الله لم يحرم خلقه منها، غير أنَّ الهداية ليست درجة واحدة، وإنَّما هي درجات: فمنها هداية لعامَّة الخلق؛ إذ خلق الله كلَّ شيء على صورته الَّتي تؤهِّله وتعينه على أداء المهمَّة الَّتي خلق من أجلها، فالعين والأذن والفم والأنف والإنسان والحيوان والنَّبات كلُّ ذلك هداه الله لما يعينه على أداء مهامِّه في الوجود، وقد سأل فرعون موسى وهارون عن ربِّهما فقال: ﴿فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ [طه/49] فأجابه موسى –عليه السَّلام- بقوله: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾  [طه/50].
والرُّتبة الأعلى من هذه هداية البيان والتَّعريف، ومعناها أنَّ الله – جلَّ وعلا – خلق الإنسان وأرشده وعرَّفه طريق الخير والشَّر، قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد/10] أي: الطريقين: طريق الخير وطريق الشَّر، وقال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان/3]
ثمَّ تمَّم الله هذه الهداية بالرُّسل والكتب ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر/24]؛ إقامةً للحجَّة على الخلق، ثم جعل نور الرِّسالات مستمرًّا في الخلق بالعلماء والمصلحين، والعلماء ورثة الأنبياء.
وهاتان الهدايتان ربَّما لا يتوقفُ النَّاس عندهم كثيرًا؛ إذ إنَّهما من رحمة الله بالخلق، ولم تتفاوت فيها الخلائق، فكلُّ الخلائق مهديَّة من هذه النَّاحية، ولكنَّ الهداية المطلوبة والَّتي ينبغي أن يحرص على طلبها الصَّادقون هي الهداية للدِّين للالتزام بأوامره ونواهيه، وهذه الهداية لا يملكها مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل، بل لا يملكها إلَّا الله، ولو كان إنسان يملك هذه الهداية لهدى الأنبياء أقوامهم، ولهدى نوحٌ –عليه السَّلام- ابنه، ولهدى لوطٌ –عليه السَّلام- زوجته، وقد قال الله تعالى لنبيِّنا –صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القصص/56].
والمتأمِّل حاله مع ربِّه لا يرى لنفسه فضلًا في قولٍ ولا في عملٍ، فالفضل ابتداءً وانتهاءً لله – جلَّ جلاله-  فإن أطعت الَّذي وفَّقك للطَّاعة هو الله، وإن ذكرت فالَّذي وفَّقك للذِّكر هو الله، وإن شكرت فالَّذي وفَّقك للشُّكر هو الله، وهذا حال الصَّادقين الَّذين يقولون مع كلِّ توفيق: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾ [الأعراف/43].
وأكمل درجات الهداية وأوفاها ما يكون لأهل الإيمان في الآخرة، حين يهتدون إلى الجنَّة، وذلك بعد أن يتجاوز المؤمنون عقبة الصِّراط وقنطرة الحقوق ينطلقون إلى بيوتهم في الجنَّة، يقول رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم: «فوالَّذي نفس محمَّد بيده لأحدهم أهدى [أي: أعرف وأدلُّ] بمنزله في الجنَّة منه بمنزله كان في الدُّنيا».
وما أجمل أن يصل المسلم بعد تعب الدُّنيا إلى منزله في الجنَّة! غير أنَّ المسلم الَّذي يصدق في طلب الهداية من الله –عزَّ وجلَّ- ينبغي أن يباشر أسبابها، وفضلًا عن قوله «اهدنا» في كلِّ ركعةٍ من ركعات صلاته؛ فإنَّ الواجب على المسلم أن يباشر أسباب الهداية، وأهمُّها: أن يعرف الله بأسماء جلاله وصفات كماله، ومَن عرف الله أحبَّه وكان طوع أمره، وإذا عرفه حقَّ معرفته آمن به، وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، ومن عرف الله حقَّ معرفته صحِب أهله، ومن عرف الله حقَّ معرفته جاهد نفسه.
فاللهمَّ اهدنا صراطك المستقيم.