أيام قليلة ونختم شهر رمضان المبارك، ذلك الشهر الذى يرتبط بأدق تفاصيل ذكرياتنا، يتميز بالطقوس الاجتماعية التى خلقت من هذا الشهر طعما وشعورا مميزا للغاية، بداية من الاستعدادات له بشهور تسبقه يتم تجهيز الفوانيس المصرية المصنوعة من الزجاج الملون والصفيح، وفرش الخيامية الذى جعل لشهر الصوم رونقاً خاصا به يختلف عن البلاد العربية ، ونجد من يردد دائما " رمضان فى مصر حاجة تانية " فالبرغم من تعاقب الأجيال الا ان العادات والتقاليد متوارثه عبر العصور ولمة العائلة وموائد الرحمن مازالت متجذرة فى الوجدان المصرى، على مدار قرنين من الزمان لم تتغير العادات المصرية فى رمضان، بل إنها مستمرة وتزيد رسوخا مع الوقت.
الاحتفاء برمضان فى مصر ظاهرة توقف عندها الجميع سواء من المصريين أو من الأجانب، فجاءت الكتابات التى ترصد وتسجل مظاهر فرادة الاحتفال المصرى بشهر الصوم، بداية من المستشرق الإنجليزى إدوارد وليام لاين، مرورا بأحمد أمين وليس انتهاء بنعمات أحمد فؤاد وغيرها من كبار الأدباء والمفكرين الذين رصدوا تفاصيل الاحتفال بشهر رمضان المعظم، فالشهر الكريم يشكل انعطافة مهمة فى حياة المصريين جميعا، بمظاهره الاحتفالية وتفاصيله المبهجة ما يجعله محل بهجة وفرحة جماعية يشارك فيها الكبار والصغار، الرجال والنساء.
البداية مع وليام لاين الذى زار مصر أكثر من مرة خلال فترة حكم محمد على باشا فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وسجل ما شاهده فى كتابه الشهير (عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم)، وخصص جزءا من الحديث عن احتفالات المصريين للحديث عن احتفالات شهر رمضان المعظم، وهنا نرى أن الكثير من مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم لم تتغير على مدار قرنين من الزمان، فمع بداية شهر رمضان «تتلألأ الجوامع أنوارًا كما فى الليالى المتعاقبة وتعلق المصابيح عند مداخلها وفوق المآذن».
ويرصد وليام لاين بعض مظاهر رمضان فى منتصف القرن التاسع عشر، وتظن أنه يحكى عن بعض مظاهر الصيام فى قاهرة القرن الحادى والعشرين، إذ يقول: «وتكتسى الشوارع نهارا منظرا كئيبا وتغلق معظم المحلات أبوابها، ويعود الازدحام إليها كالعادة فى فترة بعد الظهر وتفتح المحلات أبوابها، ويكون المسلمون طوال صيامهم نهارا نكدى المزاج، ويتحولون ليلا بعد الإفطار إلى ودودين محبين بشكل غير عادى.. ومن الشائع فى رمضان رؤية التجار فى متاجرهم يتلون آيات من القرآن أو يؤدون الصلوات أو يوزعون الخبز على الفقراء.. ويتوافد فى هذه الأوقات أبناء الطبقات الدنيا إلى المقاهي، ويفضل بعضهم كسر صيامه بفنجان قهوة».
بالاضافة اللى ظاهرة الافطار الجماعى فى الأحياء الشعبية فى الذى تحول الى فلكور شعبى يجسد سيفونية عزف منفرد تميزت بها تلك الاحياء والتى جاءت فى مقدمتها المطرية ، ذلك الحى الشعبى العتيق الذى يقعد فى شرق القاهرة، وكان يسكنه امير الشعراء احمد شوقى وبعض قادة الفكر والثقافة فى ثلاثينات القرن الماضى ، لقد سطر اهالى المطرية ملحمة روحية اجتماعية بعث برسالة ان الخير باق فى مصر أبد الابدين، فى مشهد حكت عنه الصحف العالمية ووكالات الأنباء، بالاضافة الى حضور السفير الكورى هذا الحدث الفريد، لانباره به فى العام الماضى، حيث اعتاد اهالى المطرية تنظيم الفطار الجماعي كل عام على مدى ستة سنوات متتالية وسرعان ما انتقلت العدوى الى بعض الاحياء الاخرى منها الخصوص والزاوية الحمراء، القلعة، السيدة زينب، وغيرهم من الاحياء الاخرى، لتؤكد على أصالة وعراقة الشعب المصري وتكافله الاجتماعي وتلاحمه مسلم ومسيحي، فى الوقت الذى يردد فيه البعض اننا نعانى من أزمة اقتصادية وارتفاع نسبة التضخم، وموجة غلاء أسعار، أعدائنا يشيعون اننا مقدمين على مجاعة .
فجاءت تلك الملاحم الشعبية التلقائية لتنسف كل مايشاع حول الدولة المصرية حفظ الله مصر والمصريين .