عادة ما تثير الأعمال التي يتم تصويرها خارج مركزية القاهرة الفضول، ورغم عدم انتهاء حلقات مسلسل "تحت الوصاية"، إلا أنه أصبح منافسا شرسا على لقب الأفضل في دراما رمضان 2023، ليس فقط لخطورة وأهمية القضية الاجتماعية التي يطرحها، ولكن لكيفية طرحها ومعالجتها، وهي الوصاية على الأولاد والممتلكات بعد وفاة رب الأسرة.
بنظرات تنطق بالانفعالات المركبة، مرورا بانكسارات ممزوجة بالحيرة، تضعنا شخصية حنان (منى زكي) في مواجهة تراكمات من القوانين المربكة حول علاقة الأرملة بميراث أولادها والوصاية عليهم، لضمان استقرارهم ماليا وإنسانيا من أي أطماع أو مصالح عائلية محتملة.
نضوج منى زكي
يتمنى أي مخرج العمل مع موهبة بقيمة منى زكي، والحقيقة أنها موهبة تزداد بريقا وسطوعا كلما تقدم بها العمر وأضفت عليها السنوات نضوجا وثقة، جعل من كل أعمالها محط أنظار الجمهور، ودفعها للمقدمة بمسافة عن أكثر بنات جيلها تألقا وحضورا، ما أهلها خلال السنوات الأخيرة للعمل مع أبرز المخرجين على الساحة وهممحمد ياسين، تامر محسن، بجانب محمد شاكر خضير.
اختيارات منى زكي تشي بتطور لافت في تعاطيها مع الدراما، لم تعد تطرق الأبواب المضمونة، مستغلة مواصفاتها الشكلية التي جعلتها من أهم فتيات أحلام الشباب في مرحلة ما، لكنها اليوم تعطي موهبتها مزيدا من التقدير، وتدخل تحديات أكثر قسوة، لتفلت بها من أي محاذير فكرية بائتة.
لقد تعرض مسلسل منى زكي للانتقادات الأكبر قبل بداية شهر رمضان، وبمجرد طرح الملصق الدعائي له، شُنت على صناعه ما يشبه حملة استندت إلى سيناريوهات فارغة لا تمت لأحداث العمل بصلة، فضلت بطلة "تحت الوصابة" الصمت، وردت بواحد من أقوى مسلسلات العام على المستوى الفني والجماهيري.
تكامل العناصر
وقف البعض قليلا أمام لغة العديد من شخصيات العمل وتداخل اللكنات في "تحت الوصاية" القاهرة، الإسكندرية، وبالطبع أهل دمياط، هل كانت حقا منضبطة؟ الحقيقة أن تداخل اللكنات وتشعبها في هذه المحافظة، وتحديدا لغوة سكان عزبة البرج "البحراوية"، والتي تميل لكنتهم لأهل بورسعيد، يجعل من الأمر مقبولا إلى حد بعيد، وتتضاءل التفاصيل الصغيرة أمام قضايا العمل الرئيسية وقيمتها.
وعلى الجانب الفني يحوي العمل نخبة من أبرز رؤساء الأقسام في دراما رمضان هذا العام، سواء تصميم ملابس ريم العدل شديدة التميز والتعبير عن البيئة، موسيقى ليال وطفة الأوركسترالية المتناغمة مع مختلف المشاعر المتخبطة التي يمر بها الأبطال، مونتاج أحمد حافظ الذي يعي فضيلة الاختزال، تصوير بيشوي روزفلت صاحب الأفق المتسع، وديكورات محمد عطية التي تتمتع بثراء منح عطاياه للكاميرا، وفريق إنتاج يقظ، وافر المجهود، تتضح لمساته مع صعوبة التصوير بالأماكن المفتوحة في البر والبحر داخل المدن محور الأحداث أو على أطرافها.
حكي ممتع
حكاية قديمة جديدة عن سيدة تحاول الحصول على حقوق أبنائها بعد وفاة زوجها، الجد سلبي والعم طماع، ولا خيار أمامها سوى خوض الحرب للدفاع عن حقها في تقرير مصيرها، ظاهريا يبدو الأمر أبسط مما ينبغي، ولكن على الشاشة الوضع مختلف، فطريقة الحكي الممتعة وبناء التصاعد الدرامي، ورسم الشخصيات، وصياغة الحوار، والبعد عن النمطية في تناول هذه القضية الاجتماعية، كلها عناصر تضافرت لجذب المشاهد إلى الانخراط في القصة وكأنه تحمل المسئولية جنبا إلى جنب مع البطلة وبات يبحث لها عن حلول.
سيناريو وحوار شيرين وخالد دياب وضع الأماكن في سياق مواز مع الأبطال، ابتعد عن الشعارات الرنانة في تشريح قضايا اجتماعية مهمة، وتعامل بمشرط جراح ماهر لحكى معاناة المرأة في مجتمع أغلبه يراها إما فريسة أو ناقصة للأهلية، متكئا على ذلك بخلق شخصيات لها جوانب مختلفة الدوافع.
صعوبة التشخيص
واحدة من نقاط قوة العمل اللافتة اختيار الممثلين، وارتياحهم في التحرك بعمق شخصياتهم، مها نصار، ومحمد دياب، كلاهما يقدم أداء واعيا وانفعالات مدروسة تتنوع طبقا لكل حالة.
عمر شريف (ياسين).. من منا لم يتأثر بمشاهد هذا الصبي وعنايته بأخته الرضيعة فرح، الثنائي يشغلان مساحة رقيقة في قلب الأحداث، وشجاعة تستوجب التحية لمخرج العمل في ترك هذه المساحة لهما.
جميل برسوم (الجد).. ظهور شخصية الجد دون ملامح للشر أو الطمع، يضيف لها واقعية وصدقا ساحرا، فهو يفعل ما يعتقد أنه دوره الذي فرضه عليه المجتمع بالحفاظ على الأموال اليتامى.
رشدي الشامي (عم ربيع).. الأب البديل، والحكيم الناصح، سند حنان (منى زكي) الهاربة، تعوض خبرته وطاقة محبته وهن جسده،وتخطف طلته الأعين مع كل ظهور على الشاشة.
اختيار الممثلين وإدارتهم على هذا النحو المتقن، يؤكد رؤية المخرج محمد شاكر خضير وفهمه لطبيعة العمل ومتطلبات النص، الجميع يتحرك في الأماكن بتلقائية كأنه ابن هذه البيئة بحق، بين الميناء وحلقة السمك، المقاهي وحتى ديكورات المنازل، الريس سيد (محمد عبد العظيم)، شنو (أحمد عبد الحميد)، حمدي (خالد كمال)، وعيد (على صبحي)، لقد أنسونا للحظات أنهم ليسوا صيادين.
الوصاية التي حاولت الأم الفرار من تحتها لا يمكن اختصارها في المال وحده، كانت في حديث الجد للأم بضرورة توفير المال وعدم الاشتراك للابن في تمارينالكرة لأنها مضيعة وتبديد لما تركه الأب، كانت في عدم استطاعة الأم نقل ابنها من مدرسته دون موافقة الجد الذي يمتلك "الوصاية التعليمية"، وكانت في الجدة التي قررت قص شعر حفيدتها دون الرجوع لأمها واستشارتها،عديد المشاهد التي كشفت عن وصاية أخرى فرضت على الأم ووضعتها بين خيارين أحلاهما مر.