الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (9)  وإيَّاك نستعين

د. محمود الهواري
د. محمود الهواري الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية

من واجبات الإيمان أن يستعين المؤمنون بربِّهم، ولكنَّ الأنوار الَّتي نحاول أن نستلهمها من قوله تعالى: ﴿وإيَّاك نستعين﴾ تدور حول معنى الاستعانة بالله، والاستعانة بالمخلوقين.

فأمَّا الاستعانة بالله فواجبةٌ على المؤمنين كما أسلفنا، ولا يُتصوَّر كمال الإيمان بدونها.

ومتَّى تأمَّل العبد نفسه بعين البصيرة عرف ضعفه وفقره إلى ربِّه القويِّ الغنيِّ، ومتى تعرَّف العبد صفاتِ ربِّه أدرك وجوبَ استعانتِه به، وثقتِه فيه، وتوكُّلِه عليه، وإنابتِه إليه.


وقد جمع الله في قوله تعالى: ﴿إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعينُ﴾ بين العبادة والاستعانة؛ للإشارة إلى أمرٍ مهمٍّ، وهو أنَّ ملازمة العبادة والثَّبات عليها لا تكون إلَّا بمعونة الله، وأهل العبادة الَّذين تكون عبادةُ الله غايتَهم ومرادَهم ومطلوبَهم يسألون الله أن يعينهم عليها، وقد ثبت أنَّ النَّبيَّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- كان مِنْ دُعَائه «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»، وثبت أيضًا أنَّه –صلَّى الله عليه وسلَّم-  علَّم الأمَّة كيف تستعين بالله في التَّوفيق للعبادة، وأوصاها بهذا الدُّعاء بعد كلِّ صلاةٍ فقال للأمَّة في شخص معاذ بن جبلٍ -رضِي الله عنه-: «يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِك»، ثمَّ إنَّ الله عوَّدنا الجميل، فكم من داعٍ لبَّاه، وكم سائلٍ أعطاه، وكم من متمنٍّ حقَّق مناه!


والعبادة والاستعانة حال عباد الله الصَّالحين ممَّن فطنوا لأوامر الشَّرع، وأدركوا أسباب القدرة على الالتزام بها، فكيف يغيب عن النَّاس أنَّ التَّوفيق منه، وأنَّ التَّيسير بيده، وأنَّ الأقدار يصرِّفها بحكمته؟
وانظر إلى إبليس الرَّجيم، كيف عرف قدر ربِّه، وطلب منه أن يُنظره إلى يوم يبعثون فكان من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فهل يغيب عن أذهان بعض النَّاس ما فطن له الشَّيطان؟!


والنَّاس في الاستعانة بالله درجاتٌ ومراتبُ، فبعضهم يعبدون الله ويستعينون به فهؤلاء بأفضل المنازل. وبعضهم يعبدُون الله ولا يستعينون به، يرَون أنفسَهم في أنفسِهم، يتعلَّقون بالأسباب وينسون الأقدار، لم تنفذ بصائرهم من المتحرِّك إلى المحرِّك، ومن السَّبب إلى المسبِّب، ومن الآلة إلى الفاعل على الحقيقة، وفاتهم أنَّ الأسباب بدون القدر كالموات الَّذي لا حياة فيه، وكالعدم الَّذي لا وجود له، فقصُرت هممُهم، وقلَّ نصيبُهم من قوله تعالى: «وإيَّاك نستعين».


وبعض النَّاس يشهد لله بالنَّفع والضُّرِّ، وأنَّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكنَّه استعان بالله على حظوظ نفسه وشهواته من مالٍ ورياسةٍ وجاهٍ، فأنَّى تكون لمثل هؤلاء عاقبة في الآخرة، فهم أصحاب نظرٍ قاصرٍ، لم يتجاوز مواطئ أقدامهم؟ وكم مِن متخلِّفٍ عن الرَّكب بعد أن عرف الطَّريق!
وإذا فهمنا أنَّ العبادة تشمل كلَّ حركات الحياة –كما ذكرنا في المقال السَّابق- فإنَّ الاستعانة بالله تكون في كلِّ شيء من الحياة كذلك، فإذا استعان العبد بالله أعانه ربُّه ومولاه، وتيسَّرت له كلُّ أمور الحياة.


ومن الإشراقات في قوله تعالى: «إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين» أنَّها جاءت بصيغة الجمع مع أنَّ الإنسان قد يصلِّي منفردًا خاليًا لا يراه إلَّا الله، ولكنَّه أُمِر أن يرتِّل ويقرأ بصيغة الجمع إشعارًا بوحدة المسلمين وتآلفهم وتكاتفهم، وأنَّهم صفٌّ واحدٌ، ودعوةً إلى كلِّ مسلمٍ ألَّا ينسى المسلمين من حوله في دعائه.


وأمَّا استعانة الخلق بعضهم ببعض فممَّا لا يتعارض مع الاستعانة بالله، وممَّا لا يحتاج إلى براهينَ وأدلَّةٍ، ولا يقدح في وقوع هذه الاستعانة المشروعة بين الخلق إلَّا مَن تعطَّلت آلات إدراكه عن النَّظر فهم كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلًا.


على أنَّ مَن استيقظت قلوبهم، ورأوا نور الله في كلِّ جنبات الحياة استطاعوا أن يتعاملوا مع خلق الله بما أمر الله، فتكون حركات جوارحهم وخفقات قلوبهم مع خلق الله تابعةً للشَّرع الحنيف.
وأمَّا هؤلاء الَّذين أعرضوا عن الله فلم يعبدوه، ولم يستعينوا به فاللهمَّ لا تجعلْنا منهم.