الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (8) إياك نعبد

د. محمود الهواري
د. محمود الهواري

أوَّل ما يظهر من أنوار «إيَّاك نعبد» هذا التَّركيب الَّذي قُدَّم فيه المفعول، وأُخَّر الفعل المضارع الَّذي يدلُّ على الاستمرار؛ وذلك لإفادة العناية والاهتمام بالمقدَّم، ولتأكيد أنَّ العبادةَ لا تكون إلَّا لله وحده، لا لأحدٍ ولا لشيءٍ من خلقه، وأنَّها مستمرَّةٌ لا تنقطع زمانًا ولا مكانًا.
وقضيَّة العبوديَّة لله هي مطلوب الحقِّ من الخلق، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، بل إنَّ بعثة الرُّسل وإنزال الكتب ما كانت إلَّا لدلالة الخلق على الله وعبادتهم إيَّاه، يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:36].
وممَّا تجب معرفته عن العبادة الَّتي لا تكون إلَّا لله أنَّها شاملةٌ لكلِّ حركةٍ في الحياة، وليس كما يختصرها البعض في ركعاتٍ تُؤدَّى في المساجد، أو انقطاعٍ عن الطَّعام شهرًا كلَّ سنةٍ، أو ما شابه ذلك من عباداتٍ، ثمَّ لا ترى أثرًا لهذه العبادات في تفاصيل الحياة!
إنَّ الله حين أعلن في القرآن على لسان الصَّادقين من خلقه قولَه: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين﴾ [الأنعام: 162، 163]؛ فإنَّ ذلك يعني أنَّ العبادة تشمل الحياةَ بكلِّ تفاصيلها.
وعلى هذا فإنَّ العبادة تشمل العبادات البدنيَّة كالصَّلاة والصِّيام والحجِّ، وتشمل العبادات اللِّسانيَّة كالذِّكر وقراءة القرآن، وتشمل العباداتِ الماليَّةَ كالزَّكاة والصَّدقات، وتشمل العباداتِ القلبيَّةَ كالحبِّ والتَّوكل والإخلاص والرِّضا والإنابة، وتشمل مع هذا كلِّه العلاقاتِ الاجتماعيَّة والأحوالَ الشَّخصيَّةَ والأخلاقَ والفضائلَ التَّعامليَّة، وتشمل أيضًا الأحكام القضائيَّة التَّشريعيَّة والشُّؤون التِّجاريَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة، فالعبوديَّة تشمل الحياة كلَّها.
وقد يتصوَّر البعض أنَّ العبوديَّة بهذه الصُّورة قيدٌ يمنع الحياة من الحركة، ولكنَّه فهمٌ مغلوطٌ، فما العبوديَّة إلَّا إطارٌ يحفظ حركة الحياة، وحدودٌ تمنع مسيرتها من الانحراف عن الصِّراط المستقيم.
وإذا ظهر لنا مفهوم العبادة الشَّامل فلا حجَّةَ لمن يقف بالعبادة عند حدِّ الصَّلاة والزَّكاة والصِّيام والحجِّ والتِّلاوة والذِّكر فحسب، ثمَّ يفعل في بقيَّة أمور حياتِه ما يفعله النَّاس بلا زمامٍ شرعيٍّ ولا خطامٍ فقهيٍّ.
نعم، ترك الله لنا الحريَّة في اختيار أنماط معيشتنا، لكن في إطارٍ من ضوابط الشَّريعة.
وقد يتصوَّر البعض أنَّ العبوديَّة تقتضي منَّا أن نعيش أبدًا سجَّدًا وركوعًا فقط، ولكنَّ النَّبيَّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- تكفَّل ببيانٍ يكشف أنَّ العبوديَّة تشمل حركة الحياة وتفاصيلها، ومن ذلك أنَّه جعل سعي الرَّجل على أولاده في سبيل الله، وجعل سعيه لإعفاف نفسه في سبيل الله، وجعل أجرًا على اللُّقمة يرفعها الرَّجل إلى فيِّ زوجته، وهكذا.
وإنَّ من أعاجيب النَّاس –وقد وسَّع الله عليهم معنى العبوديَّة حتَّى شملت حركة حياتهم- أنَّ يتعبَّدوا لغير الله، وهؤلاء من التُّعساء لا شكَّ وذلك بخبر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»، فلنتحقَّق بمعنى «إيَّاك نعبد» فلا نعبد إلَّا الله إنابةً وتوكُّلًا، وخشيةً وحبًّا، وحركةً وسعيًا.