الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب : أنوار الفاتحة (6) مالك

صدى البلد

اسم الله «المالك» له من الأنوار والإشراقات ما يعرفه أصحاب القلوب اليقظة. وأوَّل فيوضات هذا الاسم الجليل أنَّه قرئ به في سورة الفاتحة مرَّةً ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ومرَّةً ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، والمالك يملك وقد لا يحكم، والمَلِك يحكم وقد لا يملك، فإذا كان الله مالكًا مَلِكا فهو يملك ويحكم معًا. إنَّه الله «المالك الملك» خالقُ كلِّ شيءٍ، وبيده مقاليدُ كلِّ شيءٍ، وإليه يُرجعُ أمرُ كلِّ شيءٍ.


والقرآن عبَّر عن مُلك الله هنا بصيغة الفاعل فهو «مالكٌ» عند من قرأ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وكما في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾،  وكما في قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ-».


وورد في القرآن «المَلِك»، وهو مبالغة في التَّعبير عن مُلك الله كما في قوله: ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116]، وكما يقول ربُّنا حين يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، فَيَقُولُ: «أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ».


وفي القرآن أيضًا «مليك»، وهو مبالغة أكبر في إثبات المُلك لله، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾، وكما في الدُّعاء الَّذي يقوله المسلم صباحًا ومساءً: «اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ» فهذه ثلاثة تعبِّر عن مُلك الله.


وحين نتأمَّل اسم الله «المالك» نرى مَعْنَاه يتكرَّر كثيرًا في حياتنا؛ فهو معنا في كلِّ فاتحةٍ نقرأ بها في الصَّلوات، وهو معنا عقب كلِّ صلاةٍ مفروضةٍ حين نقول: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». ثمَّ هو معنا في أذكار الصَّباح حين نقول: «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلهِ»، وهو معنا في أذكار المساء حين نقول: «أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلهِ»، أفلا يوجب هذا التَّكرار الواضح على المؤمنين أن يعيشوا معنى اسم الله «المالك»؟


وإذا كان الله –عزَّ وجلَّ- «مالكًا، ومَلِكًا، ومليكًا» فليس هناك مُلكٌ حقيقيٌّ لأحدٍ سواه مهما ادَّعاه! وكلُّ مُلكٍ زائلٌ إلَّا ملكَه، وكلُّ مُلك فيه شركةٌ ومنازعةٌ إلَّا عندَه.  


وإذا أدرك المؤمن أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو المالك الحقيقيُّ فلا ينبغي أن تتعلَّق نفسُه إلَّا به، ولا يهفوَ قلبُه إلَّا إليه، فلا يتعلَّق بشيءٍ من متاع الدُّنيا من مالٍ، أو جاهٍ، أو نسبٍ، أو سلطانٍ، إلَّا أن يكون هذا المتاع أداةً في يده لا في قلبه، حتَّى يملكَ الدُّنيا، ولا تملكُه الدُّنيا.


وإذا انضمَّ إلى تلك البصيرة أنَّ الإياس ممَّا في أيدي النَّاس، وقطعَ الطَّمع فيما عندهم، وعدمَ التَّشوُّف لما معهم هو من أمارات الغنى الَّذي لا يكون عن كثرة العرض، وإنَّما يكون بغنى النَّفس؛ فقد فاز المسلم بأنوار اسم الله الملك، فيطلب ممَّن خزائنه لا تفنى، ويسأل مَن عطاياه لا تنقضي، ويطمئنُّ إلى أنَّه –سبحانه وتعالى- ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم تُردُّ الحقوق إلى أصحابها، فلا تُظلم نفسٌ شيئًا وإن كان مثقالَ حبَّةٍ من خردلٍ، فالأمر أمره، والقضاء قضاؤه، والعباد عباده، له الحكم وإليه ترجعون.