الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (4) رب العالمين

الدكتور محمود الهواري
الدكتور محمود الهواري

لا شكَّ أنَّ الله –عزَّ وجلَّ- يستحقُّ الحمد على نعمه الَّتي لا تُعدُّ ولا تحصى، والَّتي قد لا يفطن الخلق لوجود بعضها، ولكنَّ ما يلفتُ الأنظار ويوقظ البصائر أنَّ الله يختار من بين أوصافه الكثيرة أنَّه «ربُّ العالمين»، وكأنَّ ربوبيَّته للعالمين نعمةٌ تستحقُّ الحمد! وهي كذلك حقًّا.
ويبقى أن نتساءل: ما معنى أنَّ الله ربُّ العالمين، وما العالمون، وهل العالمون مربوبون له؟
فأمَّا الرَّبُّ فيطلق في اللُّغة على المالك، والسَّيِّد، والمدبِّر، والمصلح، والمربِّي، والقيِّم، والمنعم.
و«العالمون» جمع العالم، وهو كلُّ موجودٍ سوى الله –سبحانه وتعالى.
ومعنى «ربُّ العالمين» أنَّ الله خالقُهم، ومالكهم، ومربِّيهم، ومصلحُهم، ومدبِّرُ أمرهم.
وليس عجيبًا أن يكون الله ربَّ العالمين من هذه النَّواحي، ولكنَّ العجيب أن نعرف أنَّ المخلوقات مربوبةٌ لله، عابدةٌ له.
والإنسان مخلوق تقع منه المعصية والطَّاعة، والذَّنب والتَّوبة، ومثله الجنُّ، وأمَّا بقيَّة المخلوقات ممَّا يُظَنَّ أنَّها جمادات، أو أنَّها لا عقل لها فخاضعةٌ عابدةٌ مربوبةٌ لله.
وقد يعجب القارئ لمثل هذا الكلام، ولكنَّ المتأمِّل فيما ورد في القرآن والسُّنَّة يزول عجبه إذا أدرك أنَّ ما نظنُّه جمادًا لا يحسُّ هو فيَّاضٌ بالمشاعر والأحاسيس.
إنَّ هذه المخلوقات لها عبوديَّة تخصُّها، تشترك في بعضها مع الإنسان في الاسم وتختلف عنه في الكيفيَّة، فالمخلوقات في الجملة تسجد لربِّها، يقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 49].
وفي موضعٍ آخر يذكر الله سجود كثيرٍ من المخلوقات على التَّفصيل، يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: 18]. 
والمخلوقات تسبِّح ربَّها، يقول الله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].
ومن الأحاسيس الطَّيِّبة ما تراه عند الحيتان في البحر، وعند النَّمل في الجحور، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَليه وسَلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ».
إنَّ الحيتان في البحر والنَّمل في الجحر يقدِّرون فضل العلماء والدُّعاة والمصلحين ومعلِّمي النَّاسِ الخير، وكثير من الإنس في غفلة عن علمائهم، فسبحان الله!
وأمَّا النَّبات فمن عجيب أمره ما أخبر به ابْنُ عَبَّاسٍ –رضِي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ- فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي إِلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، فَقَرَأْتُ السَّجْدَةَ فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: اللَّهُمَّ احْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ- قَرَأَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ.
والكلام كثيرٌ كثيرٌ عن عبوديَّة الجبال والأحجار والأشجار وغيرها من المخلوقات ما يثبت أنَّ الله –سبحانه وتعالى- ربُّ العالمين.