صناعة الوهم وعقلية القطيع

فى الأثر القديم يقال إنه كان يعيش رجلا  يدعي "بانورج" وكان هذا الرجل دائم الترحال، ومن كثرة ترحاله اكتسب خبرات جمة لدرجة أنه كان يستطيع بمجرد رؤية ملامح وجه أى انسان أن يعرف شخصيته ويقيمه التقييم الصائب.

 فى واحدة من رحلات بانورج البحرية التقى براكب وبمجرد أن وقعت عينه عليه تأكد أنه جشع، وعلم ممن على متن السفينة أن هذا الرجل  تاجر أغنام ويدعى  "دندونو" ومعه قطيع من الخرفان بغرض النقل والبيع.

كان "دندونو" تاجراً جشعاً يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية، يوم وراءه آخر وبانورج ودندونو لا يطيقان أحدهما لآخر بدون سبب معلن، ربما لأن كل منهما عرف الآخر وبأنهما لم يتلاقيا فى الطباع والأخلاق.

فى صباح مشرق بهيج أفسده شجار الاثنين وعلا صوتهما واحتدامه منهما على الآخر ،  فما كان من "بانورج" إلى أن فكر لحظيا بالانتقام من التاجر الجشع بطريقته ؛ فعرض على التاجر الجشع شراء خروف بسعر عال جدا، مما خفف من جو المشاحنة وأسبغ السعادة على دوندونو وفرح بالصفقة الرابحة.

 وفي مشهد غريب أمسك  "بانورج" بالخروف من قرنيه وجره  بقوة إلى طرف السفينة وألقى به  إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطى الخروف الغريق ليلقى مصيره، ليلحقه الثاني فالثالث والرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في طابور مهيب لتلقي بنفسها للمصير المهلك الذي ينتظرها ..جن جنون تاجر الأغنام وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء ، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل ،فقد كان إيمان الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم.

هذه القصة ذكرتنى بما تناولته وسائل الإعلام عن خبر يقول فحواه إن المحكمة الجنائية تطالب بإلقاء القبض على الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لمحاكمته على ارتكاب جرائم حرب فى أوكرانيا، وعلى الفور توالى القطيع يسير فى نفس النهج ويدعم القرار الدولى ويؤكد موافقته وحشده لكافة الوسائل التى تضمن تنفيذ المطلب الجنائى الدولى. 

هذا القطيع ويرأسه دوندونو أقصد المحكمة الجنائية الدولية لم يكن حاضرا بنفس الثقة والقدرة بل كان يغط فى نوم عميق حين الغزو الانجلو أمريكى للعراق بزعم نية رئيسها إنتاج أسلحة كيميائية ، ودك بغداد دكا وحولها إلى عصور ماقبل النهضة الصناعية الأوروبية مثلما قال رئيس القطب الأوحد حينذاك.

ونفس القطيع هو من قطع أوصال سوريا واستباح دم ابناءها ، وواصل القطيع ومريديه نومهم العميق عندما اسقطت قواتهم مئات ألاف الأطنان من الذخائر والمعدات العسكرية على ليبيا بل وتأليب أبناء شعبها ليستحلوا قتل رئيس بلادهم بدم بارد وبوحشية مفطرة ، ونفس العصابة الدولية هى أيضا من عاثت فسادا فى اليمن وتسعى الى تقسيمه حاليا الى يمنيين. نفس المسمى الدولى الذى يبيح لنفسه الحرام ويحرم الحلال على غيره فهو ذلك المبنى الضخم الذى يجول فى أروقته أصحاب المصالح الدولية وأبناء القوى العظمى وهم من يحركون سهامهم نحو أهدافهم وحينها تطلق الاتهامات والمطالبات.

هذا الكيان الدولى وقطيعه لم يتحدثوا ولم يطالبوا بوقف الاستيطان الإسرائيلي ولم يتحركوا بأى طريقة لوقف الألة العسكرية الإسرائيلية التى تلتهم أجساد الفلسطينيين فى الضفة الغربية وغزة ؛ هذا القطيع الدولى يرمى بالضعفاء واحدا تلو الآخر فى آتون الانتقادات والاتهامات ، ومن منطلق الكيل بمكيالين تتوالى قرارات الكيان الأممى ومعاونيه وداعميه لدرجة أنك تحد نفس الفعل معاقب عليه بأسلوبين مختلفين كل مافيه ان احدهما صادر من أتباع القطيع الدولى والآخر من المغضوب عليهم الضالين.

عقلية القطيع مصطلح شائع في اللغة الفرنسية، ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين، فليس أخطر على المجتمع  الدولى أومن سيطرة عقلية القطيع، لأنها ستصبحان مرحلة ما فى وضعية  التهلكة بسبب كراهية الشعوب والاوطان. القطيع الدولى يغفل حقيقة اذا الشعب اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر ، رحم الله شاعرنا التونسى ابو القاسم الشابى ورحمنا الله من مرحلة القطب الأوحد وقطيعه .