لطالما استهوتني فكرة حضور حلقة زار لأتأمل كيف تقود طرقات الطبول و ضربات الدفوف المتسارعة الي تغيير الوعي ،فتطهر بالإنغماس و الوجد الروح ،و تشفي الجسد ،فنشعر بحالة استرخاء و سلام و وفاق، دعت النساء خصيصا الي ممارستها للتنفيس عن توتراتهن الناجمة عن ضغوط المجتمع.
لسنوات طويلة ساد اعتقاد خاطئ ان الزار يطرد أرواحا شريرة، و اعتبر من ممارسات عفا عليها الزمن ، و لم نعد نتذكر أيا من ممارساته سوي استخدام رَيَّا و سكينة إياه للتغرير بضحاياهما، لكن مع مرحلة تطور روحي تمر بها الكرة الارضيّة و أدت الي انتعاش الطب التكميلي و الممارسات الروحية، بدأ أناس يبحثون عما هو فطري و طبيعي و أصيل في عودة للجذور و بحث عن توازن مفقود بين المادة و الروح، و بين الكيمياء و الطبيعة.
و هكذا وجدت في قاعة العرض المسرحي البسيطة جمهورا ملأها بين شباب عصري و اجانب متحمسين كما لو كان من مشاهدي حفلات نجوم الغناء العالميين عندما يأتون الي مصر.
أما الفرقة بجلاليبها و آلاتها الشعبية فجميع أعضائها تعدوا الخمسين، لكنهم يرقصون و يغنون و ينغمسون كما لو كانوا في سن العشرين. يندمجون كما لو انهم سيغيبون عن الوعي، و كأن لا احد يشاهدهم، فهم يتمتعون بأدائهم العفوي حتي تري عيون بعضهم تحدق تارة، و تكاد تنغلق تارة اخري، فيشيع فرح و نشوة، يشعل القاعة بتصفيق حماسي.
الموسيقي تجمع بين الناي و الموال، و بين إيقاعات صعيدية و نوبية و سودانية تذكر احيانا بكرنڤال ريو او حتي موسيقي الچاز. اما معاني الكلمات فهي بين الحكمة و الزهد و الغزل. لكن سر تلك الفرحة المعدية هو ان هؤلاء الفنانين لا يؤدون، بل يحبون التفاني في انتاج حالة وجد، و في اكتشاف أنفسهم و مواهبهم بانطلاق ، و تمتع دون انتظار توقع او ضمان او إعجاب ، فيؤثرون في الجمهور تصفيقا و غناء و ربما رقصا.
يقولون إن الأغاني ورثوها من الاجداد، لكن الروح هي الأصل ، و هي تسعد و تشفي. و تتجلي في اداء محكم و تلقائية و فرح، يغمر القاعة ، فنخرج بدرس جلي ان التمسك بالفطرة تنتج فنا عبقريا حتي لو كان بأبسط الإمكانيات و بلا دراسة؛ فحياة التلقائية هي السهل الممتنع، و هي الأصالة المبدعة، و هي التي تدخل القلب بلا استئذان و موانع.