الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الغلاء.. متلازمة الحروب

نهال علام
نهال علام

كل زمان يحتاج لروح ساحر وفنان يروي ما كان في أروقة طياته وما شهدته الكواليس على خلفية أحداثه، شخصية الزمان متعددة وإن كانت واحدة فهي متغيرة، نحن متغيرون وهو لا يعترف بالثابتون من أحداث وأشخاص، تلوكهم ذاكرته دون أدنى التماس، لذا كلما كانت الأشخاص استشنائية والأحداث غير اعتيادية، كان ذلك بمثابة بصمة طويلة العُمر في جبين الزمان لا يمحيها إنسان وصلدة بغض النظر عن المكان.

والأحداث الكبرى التي تشهدها الدول سواء كانت أم لم تكن مدعاة للأمل، تشبه المسرحية، البداية المنطقية والعقدة التصاعدية، والذروة الفجائية والنهاية الدراماتيكية سواء وردية أو سوداوية، أما أبطالها فهم التركيبة التى تعج بها ارجاء الكرة الأرضية، الطيب والشرير، الشحات والأمير، الساخر والفاجر، رجال العلم والدين، الخائن والأمين، الحب والغيرة التي لا تقبل التفسير، المرض والعوض وكل من يلعب دورًا في تطبيق القدر الغير قابل لعدم التنفيذ.

وأبطال الحدث ينقسمون لهؤلاء المرئيون أو لأبطال الظل الذين تحسبهم حشو وغير مؤثرون، لكن لا  أحد يعتلي مسرح الحياة دون أن يكون مؤثراً، حتى وإن لم يكن مُغيراً يكفي أن يكون مفكراً أو مُكفراً ليصنع التغيير الترددي، الذي يشبه دوامات النهر عندما يلقي فيه حجراً، فمن ينظر للنهر سيرى الدوائر المغلقة التى رسمت على صفحة الماء، لكن ربما لن يتذكر أن هناك حجراً يجثو في قاعه.

تعتمد قوة رصد الأحداث والأبطال على مدى نضج المشاهد، وهنا لا أقصد عمره البيولوجي ولكن أعني فكره السيكولوجي، وكلما كان المشاهد أكثر وعياً قرأ بين سطور الحدث ألف حدث وحدث، وهكذا هي الحياة أيضاً وكما قال يوسف وهبي وما الحياة إلا مسرح كبير، واسمحوا لي أن اعقب قوله بأنها مسرح كبير وخطير لا ينعم فيه المشاهد بمقعد وثير، ولا يحظي فيه البطل بمكانته المستحقة من التقدير أو التحقير، فهوى المشاهد لا يخضع للتبرير.

وإذا تابعت الأحداث الكبرى والتواريخ التي صنعت مسارات عظمى أو كبوات صغرى، هزائم محققة أو انتصارات متوقعة، دائماً كان هناك حاضراً بطل الظل الذي ما غاب يوماً وكان دائماً مُخلصاً، لا تقتنع له بسبب رغم أنه وليد لمائة سبب، هو محرك المشاعر السلبية بالرغم أنه كسيح لا يملك حتى الزحف نحو بعض الواقعية، يبالغ في أدائه ولكن الجمهور يسقط غضبه على المحيطين بأجوائه.

أنه الغلاء يا سادة تلك العادة المرتبطة بالأيام المباركة والمناسبات السعيدة ولحظات الغضب والحروب الشديدة، والأوبئة السريعة، والأحداث البطيئة، وصفعات الطبيعة، والتغيرات المناخية وما لذلك من متغيرات مزاجية، هو رفيق الأيام الباردة والصاحب في الأوقات الحارة، هو تلك الشخصية اللزجة التي تتداعى بسببها أحلام المواطنين وأمنياتهم البسيطة من الستر والعافية.

لم يذكر حدث في التاريخ سياسياً أو جغرافياً إلا وكان له مردوداً اقتصادياً، فما اجتمع حدث وتبعاته إلا وكان المواطن المطحون ثالثهما، ودائماً وأبداً مؤشر السوق هو سعر البيضة، منذ أن كانت تقايض بلا ثمن وحتى أصبح لها ثمن من المليم ووصولاً لخمس آلاف من الملاليم، وأذكر الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد ذكر في رائعته لا أحد ينام في الإسكندرية آثار الحرب العالمية على الأسواق المصرية، واستشهد في ذلك ببورصة البيض التى وصل فيها سعر الألف بيضة إلى الكثير من القروش ذات الأمجاد التليدة.

الغلاء هو متلازمة الحروب ولهيب الجيوب المرتبط بكل متغير عالمي، بركان يلقي بحممه على رأس الجميع، تكفي زيارة واحدة لأي من الأسواق الواعدة في الأحياء الراقية أو الأزقة الضيقة، في الدول المتقدمة أو تلك المذيلة في ركب التحضُر، لتجد مطرقة الغلاء لم ترحم الجميع، الاختلاف الوحيد أنها للبعض مفرمة وللآخرين مقصلة.

ولا يجرؤ أحد أن ينفي عن الأسعار جنونها، ولكن الأزمات كاشفة لأنفسنا ولغيرنا، أذكر أنني كنت كالكثير من المصريين أن فاتورة الكهرباء والمياه بمثابة سبيل للمحسنين، وبالرغم من ضمير أبي الحي الذي طالما كان ينهاني عن هذا الفعل، إلا إنني لم اقتنع لذلك الترشيد سبباً، وأضف إليهم البنزين والسيارة التي كانت تمتلئ معدتها ببعض جنيهات، ما اقتنعت يوماً بأن تخفيف الاستهلاك في تلك المجالات ذو فائدة بالأساس، فمقابلهم المادي لا يمثل مشكلة، ولكن عند رفع الدعم التدريجي استيقظ ضميري من سباته الطويل بفضل الوجع المادي الذي أرق نومه الثقيل.

تعلمت الترشيد مجبورة، وحولت كل لمبات المنزل إلى الموفرة المشكورة، واضطررت آسفة أن أراقب ممارساتي السلوكية في استخدام السيارة لأخفف من قيم الاستهلاك النفطية، ومع مرور السنوات أصبح الترشيد عادة حياتية أمارسها دون أن أدري بأريحية ولكن في النقاط المذكورة، ومع رفع الدعم التالي لم أشعر بالفرق الكبير لأن تعاملي مع تلك المسائل أصبح واعي ومدرك أنه أمر خطير.

الأزمة الحالية، بالفعل خانقة ومؤثرة ولكنها اعادت الكَرّة لمراجعة خطواتنا تجاه ثلاجاتنا وموائدنا، فمصر من أعلى الدول في معدلات هدر الطعام بمعدل ٩ ملايين طُن سنويًا أي أن نصيب الفرد تسعين كيلو بمعدل ربع كيلو يومياً! لا جدال أن القاء الفائض الصالح للأكل في القمامة جريمة أخلاقية، ولنتذكر السفر الرمضانية وشكاوي الفنادق من حجم الهادر نتبين مدى فداحة الفعل، لذا فلتكن منحة المحنة مراجعة الذات والتعود على بعض السلوكيات اللائقة لتنتفع بها الأجيال اللاحقة وتقينا شر التغيرات في المراحل القادمة.

أؤمن أن هذا الوقت سيمضي كما قال الحكيم الهندي، وعندها سنصبح أكثر حنكة وأعمق ضميراً، أما التجار الذين تعاظمت ثرواتهم وسط تلك الأحداث المتلاحقة وينفخون في الأزمة كالكير في النار، فليستمتعوا بما جنوا ولكن يتذكروا أنها أرباح مبللة بدعوات الكادحين لذا فهي كالضريع لا يسمن ولن يغني من جوع، وتلك الأرباح الجنونية لا تساوي دمعة أم وانحناءة أب لأن دخولهم غير مجدية في توفير المتطلبات الأساسية، لذا فنشوة المال الوفير ستنسى مع شربة من الغساق المرير، ويكفي الأطنان المنضبطة يومياً في محاولات وزارة الداخلية والتموين لضبط الاسواق بأن تكشف عورة شعب متدين بطبعه، ولا أدري في آي فصل في كل الأديان ورد استغلال المحن بذلك الشكل المثير للحنق.

أيام صعبة، واجتيازها ليس من الأمور السهلة ولكنها ليست بالمستحيلة، فترتيب الأولويات وتنظيم الاحتياجات واكتساب عادات استهلاكية جديدة والبحث عن بدائل محلية باسعار زهيدة مقارنة بمثيلاتها المستوردة من مفاتيح الحل الحميدة، على مرّ الزمان والشكوى من الأسعار هي شعار الأيام، ولكن بالطبع لم تكن بتلك الصورة الاستغلالية ولا الطريقة الاعتباطية، ولكن بعد الصدمة الأولية تأتي مرحلة التكيف الذاتية وخلق واقع جديد نعتاده بعد فترة نفسية تمثل تعويد النفس على الانتقالية، وما تلبث حتى تصبح مرحلة منسية وذكريات نرويها على سبيل المفاخرة ونترحم على الأيام التي ولت بخيراتها كفقرة ترفيهيه، فكل مُر سيمُر.

نحن على أعتاب أيام مفترجة وسعيدة سنتشارك الصوم مسلمون ومسيحيون، وأبواب السماوات مفتوحة للدعوة للتاجر الأصيل بالبركة وعلى ذلك الرذيل بالوجيعة، وكل عام وأنتم بخير وسنظل دوماً بستر الله محاطين وفي نعمه غارقين وبفضله مغمورين مادامت الكلمة العليا للتكاتف والإخاء سننجو وستمر ككل الأزمات، وكما قيل في أمثالنا القديمة المشبعة بالحكمة ياما دقت على الرأس طبول، وفي ظني أن الخير سيأتي سيول، ولكن على رأس ولاد الأصول.