ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يستفسر عن حدود الاستمتاع بين الزوجين أثناء الحيض، حيث يقول صاحب السؤال : قليلا ما أجتمع بزوجتي بسبب سفري، وغالبًا ما آتي في وقت تكون فيه حائضًا، وعادتها أن تحيض أربعة عشر يومًا؛ فلا نستطيع الاستمتاع إلا يومًا أو نحوه في مدة مكوثي معها.. فهل يجوز لي أن أستمتع بكامل جسد زوجتي وهي حائض إذا اجتنبت الجماع؟
وقالت دار الإفتاء، إن جمهور الفقهاء أجمعوا على جواز استمتاع الزوج بزوجته الحائض بجميع جسدها فيما عدا ما بين السرة والركبة، فالأصل فيه المنع، لكن إذا وجد أيٌّ من الزوجين مشقةً في ذلك؛ كزيادة الرغبة في الاستمتاع، أو كان وقت اجتماعهما ضيقًا، فيجوز في هذه الحالة تقليد من أجاز الاستمتاع بما بينهما من العلماء، شريطة أن يعلم الزوج من نفسه أنه قادرٌ على الامتناع عن الوطء؛ لأن الوطء حال الحيض محرّمٌ بالإجماع.
وتابعت: وأباحت الشريعة للزوجين الاستمتاع ببعضهما بالجماع وغيره في كل حال عدا ما استُثني من الوطء في الدبر والجماع في نهار رمضان وفي الإحرام وأثناء الحيض والنفاس؛ قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: 222]، فأمر الله عز وجل باعتزال النساء في حال حيضهن، وظاهره أنه عام في جميع أجسادهن، ولم يخصص منهن شيئًا دون شيء في الآية.
ولكن ورد عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه الإمام البخاري أنها قالت: "كانت إحدانا إذا كانَت حَائضًا أمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تَأتزِر ثمَّ يُباشِرها" وتأتزر: أي تلبس الإزار، وهو ثوب يُحيط بالنصف الأسفل من البدن من السرة إلى ما تحتها، ولذلك نظائر عدة في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكرت دار الإفتاء، أن هذه الأخبارُ خَصَّصَتْ عمومَ الآية الكريمة؛ ولذلك أجمع العلماء على حرمة وطء الحائض في الفرج وعلى جواز الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة؛ إلا ما روي عن ابن عباس وعبيدة السليماني من وجوب اعتزال الرجل فراش زوجته الحائض، قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (3/ 86، ط. دار الكتب العلمية): [وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه] اهـ.
ولما خصصت الأخبار ما فوق السرة وما دون الركبة من عموم التحريم بقي قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: 222] على ظاهر ما يقتضيه من تحريم الاستمتاع بكل شيء من بدنها غير ذلك؛ فشمل التحريمُ الفرجَ وما حوله مما بين السرة والركبة؛ فما اتفقت عليه الآثار صار مخصوصًا من هذا الظاهر وبقي ما سواه على الظاهر.
كما أن الاستمتاع في موضع الفرج محرمٌ على زوج الحائض بالإجماع، وإذا قرب من ذلك الموضع فلا يأمنُ على نفسه أن يواقع الحرام، فعليه أن يجتنب ذلك بالاكتفاء بما فوق السرة وما دون الركبة، وكان هذا نوع احتياط فكان واجبًا؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: «فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ».
وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن مباشرة الحائض تجوز فيما دون الركبة وما فوق السرة، أما ما بين ذلك فيجب اعتزاله.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "المقدمات الممهدات" (1/ 123، ط. دار الغرب الإسلامي): [وأما كيفية اعتزال النساء في الحيض المأمور به في الآية ففيه لأهل العلم ثلاثة أقوال:
أحدها: اعتزال جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه على ظاهر قول الله عز وجل؛ لأنه أَمَرَ باعتزالهن عمومًا ولم يخص منهن شيئًا دون شيء. وهذا إنما ذهب إليه من اتبع ظاهر القرآن وجهل ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآثار.
والثاني: إباحة مباشرة ما فوق الإزار على ما وردت به الآثار، وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار. وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين من البغداديين.
والثالث: إباحة كل شيء منها ما عدا الفرج] اهـ.
وذهب الحنابلة، وهو قول محمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، ورواية الحسن عن أبي حنيفة، وقول أصبغ من المالكية، ووجه عند الشافعية، وهو اختيار الإمام النووي وغيره، وروي ذلك عن عكرمة وعطاء والشعبي والثوري وإسحاق، فذهبوا إلى أن ما يجب اعتزاله من النساء في الحيض هو موضع مخرج الدم فقط؛ أي يجوز الاستمتاع بباقي جسدها، ويشمل ما بين السرة والركبة، إلا الجماع.
واستدل الحنابلة ومَن وافقهم بما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقالت: "كل شيء إلا الفرج"؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المغني" (1/ 243، ط. مكتبة القاهرة): [وما رووه عن عائشة دليل على حل ما فوق الإزار، لا على تحريم غيره] اهـ.
وأجاب الجمهور بأن مرادها رضي الله عنها أن له كل شيء إلا الفرج؛ أي مع الإزار؛ قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 119، ط. دار الكتب العلمية): [فحُمل على هذا توفيقًا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض]اهـ.
واستدل الحنابلة ومَن وافقهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: 222]، ووجه الدلالة أن الآية فيها بيان أن الحرمة لمعنى استعمال الأذى وذلك في محل مخصوص، وهو موضع الدم، فيقتصر عليه؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المغني" (1/ 243، ط. مكتبة القاهرة): [وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «اجْتَنِب منها شعَار الدّم»، ولأنه منع الوطء؛ لأجل الأذى، فاختص مكانه كالدبر] اهـ.
وأجيب بأن الآية الكريمة حجة عليهم؛ لأن ما حول الفرج لا يخلو عن الأذى عادة فكان الاستمتاع به استعمال الأذى.
فاستدلوا بأن "المحيض" في قول الله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: 222]، اسم لمكان الحيض كالمقيل والمبيت، فكان المخصص هو اعتزال موضع الدم فقط، وفيه دليل على إباحته فيما عداه؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي في "الشرح الكبير" -المطبوع مع "المقنع" و"الإنصاف"- (2/ 375، ط. هجر للطباعة والنشر والتوزيع): [ولنا قول الله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، وهو اسم لمكان الحيض؛ كالمقيل والمبيت، فتخصيصه موضع الدم بالمنع يدل على إباحته فيما عداه] اهـ.
وأجاب الجمهور بأن المحيض هو الحيض، مصدر حاضت المرأة حيضًا ومحيضًا؛ بدليل قوله تعالى في أول الآية: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾، والأذى: هو الحيض المسئول عنه، وقال تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ [الطلاق: 4].
ورد الحنابلة ومن وافقهم بأن اللفظ يحتمل المعنيين، وإرادة مكان الدم أرجح؛ لأنه لو أراد الحيض لكان أمرًا باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية، والإجماع بخلافه. ولأن سبب نزول الآية كما أخرج الإمام مسلم في "صحيحه" أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة اعتزلوها فلم يؤاكلوها ولم يُشاربوها ولم يُجامعوها في البيت؛ فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اصنَعُوا كلَّ شيءٍ إلّا النّكاح».
وهذا تفسير لمراد الله تعالى، ولا تتحقق مخالفة اليهود بحملها على إرادة الحيض؛ لأنه يكون موافقًا لهم، قال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المغني" (1/ 243، ط. مكتبة القاهرة): [فإن قيل: بل المحيض الحيض، مصدر حاضت المرأة حيضًا ومحيضًا، بدليل قوله تعالى في أول الآية: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: 222]، والأذى: هو الحيض المسئول عنه، وقال تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ [الطلاق: 4]، قلنا: اللفظ يحتمل المعنيين، وإرادة مكان الدم أرجح، بدليل أمرين:
أحدهما: أنه لو أراد الحيض لكان أمرا باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية، والإجماع بخلافه.
والثاني: أن سبب نزول الآية، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة اعتزلوها، فلم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، فسأل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية، فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» رواه مسلم في "صحيحه"؛ وهذا تفسير لمراد الله تعالى، ولا تتحقق مخالفة اليهود بحملها على إرادة الحيض؛ لأنه يكون موافقًا لهم، ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اصنَعُوا كلَّ شيءٍ إلَا النّكاح»] اهـ.
وناقش الجمهور بأن قوله: «اصنَعُوا كلَّ شيءٍ إلَّا النّكاح» محمول على القُبلة ولمس الوجه واليد ونحو ذلك مما هو معتاد لغالب الناس؛ فإن غالبهم إذا لم يستمتعوا بالجماع استمتعوا بذلك لا بما تحت الإزار.
وأجاب الحنابلة ومَن وافقهم على ما استدل به الجمهور من حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرها فتتزر فيباشرها وهي حائض بأن هذا دليل على حلِّ ما فوق الإزار لا على تحريم غيره، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يترك بعض المباح تقذُّرًا؛ كتركه أكل الضب والأرنب؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المغني" (1/ 243، ط. مكتبة القاهرة): [وقد يترك النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بعض المباح تَقَذُّرًا؛ كتركه أكل الضب والأرنب، وقد روى عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجها ثوبًا] اهـ.
وأجابوا بأن الأحاديث الدالة على جواز كل شيء إلا الجماع منطوق، وما استدل به الجمهور مفهوم، والمنطوق أولى من المفهوم؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي في المرجع السابق نفسه: [ثم ما ذكرناه منطوق وهو أولى من المفهوم] اهـ.
ورد الجمهور بأنه لا يلزم أن يكون دليلهم مفهومًا، بل يحتمل أن يكون منطوقًا؛ فإن أبا داود أخرج عن عبد الله بن سعد أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض فقال: «لَكَ مَا فَوقَ الإِزَارِ»؛ فقد سأل عن جميع ما يحل له من امرأته الحائض فقوله: «لَكَ مَا فَوقَ الإِزَارِ» معناه: جميع ما يحل لك ما فوق الإزار؛ ليطابق الجواب السؤال.
ولأنه لو سُلِّم أنه مفهوم، كان هذا المفهوم أقوى من المنطوق؛ لأنه يدل على المفهوم بطريق اللزوم لوجوب مطابقة جوابه صلى الله عليه وسلم لسؤال السائل، ولو كان هذا المفهوم غير مراد لم يُطابق فكان ثبوته واجبًا من اللفظ على وجه لا يقبل تخصيصًا ولا تبديلا لهذا العارض، والمنطوق من حيث هو منطوق يقبل ذلك فلم يصح الترجيح في خصوص المادة بالمنطوقية ولا المرجوحية بالمفهومية.
وللشافعية وجه بأن المباشر إن وثق بضبط نفسه عن الجماع المحرم فيجوز له وإلا فلا؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (2/ 363): [والوجه الثالث: إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج لضعف شهوة أو شدة ورع جاز وإلا فلا؛ حكاه صاحب "الحاوي" ومتابعوه عن أبي الفياض البصري وهو حسن] اهـ.
فكان حاصل ذلك أن جمهور الفقهاء على حرمة مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة، وذهب الحنابلة وطائفة معتبرة من كل مذهب إلى جواز كل شيء إلا الجماع، وتوسط بعضهم فقالوا: يجوز إذا وثق بضبط نفسه عن الفرج.
وبناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن الأصل في مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة الحرمة؛ خروجًا من الخلاف، لكن يباح لمن وجد مشقة في ذلك؛ لزيادة الرغبة في الاستمتاع بينهما، أو ضيق وقت اجتماعهما، فيجوز له أن يقلد مَن أجاز الاستمتاع بما بين السرة والركبة مع الامتناع عن الإيلاج في الفرج -فهو محرم بالإجماع-، شريطة أن يعلم من نفسه أنه قادرٌ على الامتناع عن الوطء المحرم بالإجماع.