الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الأصولية لم تغادر أوروبا

عمر الأحمد - كاتب
عمر الأحمد - كاتب وصحفي إماراتي

شاهدنا جميعا وتألمنا لما شاهدناه، من قيام زعيم حزب يميني متطرف بحرق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية بالعاصمة السويدية ستوكهولم. الدنماركي-السويدي راسموس بالودان زعيم حزب “Stram Kurs” اليميني المتطرف، لم يأبه لمشاعر المسلمين أو لاحترام الأديان بل قام بفعلته بجرأة تامة وأمام الجمهور، بل وأمام سفارة دولة مسلمة. هو فعلٌ خبيثٌ بلا شك ويستفز مشاعر المسلمين بل ومشاعر معتنقي الديانات الأخرى ممن يحترمون المعتقدات الدينية، خاصة وإن كانت ديانة سماوية نزلت بالسلام ولأجل السلام، إلا أنني لم أستغرب الأمر لسبب رئيسي ومهم في فهم تكوين التاريخ الأوروبي، وهو أن الأصولية لم تغادر أوروبا تماماً كما يظن البعض، بل ظلت بقاياها هناك منذ العصور الغابرة. ودعونا نتذكر التاريخ لفهم العلة.

في عام 1096 ميلادي أصدر بابا الكنيسة الكاثوليكية في روما فتوى بتوحيد صفوف الجيوش الأوروبية للقيام بما يسمى "تحرير بيت المقدس من أيدي المسلمين"، تحت حملات سميت بـ "الحملات الصليبية" بسبب طابعها الديني، حيث شارك ضمن الجيوش الأوروبية أعداد كبيرة من رجال الدين بالإضافة إلى رفع رايات الصليب ونقشه على ملابس الجنود. ولم يسلم من بطش هذه الجيوش أحد، بما فيهم اليهود في مذابح عرفت بـ "مذابح راينلاند"، بالإضافة إلى معتنقي المسيحية الأرثوذكسية والسلاف (الروس) والمغول الذين عانوا من ويلات هذه الحملات. وفعلا احتُلت القدس عام 1099م، ثم أتى القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله -وكما هو معروف- قام باستردادها وتحريرها بعد 88 عام من الاحتلال. وفي عام 1478م، أصدر الملك الإسباني فرناندو وبموافقة بابا الكنيسة الكاثوليكية سيكسوتس الرابع، أمرا بإنشاء محاكم متخصصة في محاكمة المسلمين واليهود والتي عُرفت باسم "محاكم التفتيش"، والتي كان يمارس فيها أشد أنواع القسوة والتعذيب بحق المسلمين واليهود، وكان الهدف من هذه المحاكم إنهاء أي وجود لديانة أخرى غير المسيحية الكاثوليكية. ما ذكرته سرد تاريخي وشواهد مقتضبة وعينة أسعى من خلالها لتأصيل الأصولية في أوروبا، ولكن الشواهد كثيرة.

ولا أنزه الأراضي العربية، إلا أن قادتها تاريخيا كانوا أكثر حكمة وإرادة في القضاء على سرطان التطرف، والتاريخ شاهد على ذلك، سواء في العصر القديم حين تم القضاء على الخوارج إبان حكم الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان ثم أبناءه بجيوش قادها الحجاج بن يوسف الثقفي والمهلب بن أبي صفرة رحمهم الله، وفرقة الحشاشين التي قضى عليها الظاهر بيبرس عام1273م، أو في العصر الحديث كـتنظيم "داعش" الإرهابي أو جماعة الإخوان المسلمين والتي دحر شرهم وقضي عليهم في الإمارات، ومصر، والسعودية. ولكم المدهش والغريب في الأمر، أن قادتنا وفقهم الله في محاربة التطرف والأصولية بشتى الطرق منها العسكرية والثقافية وحتى الإعلامية، بينما لا زلنا نسمع عن التطرف في أوروبا يسرح ويمرح تحت شعار "حرية التعبير" المتناقض، ولو قام أحد ما بحرق الأعلام الملونة للشواذ، ستقوم الدنيا برمتها وتعقد الندوات والمؤتمرات ونسمع بالتصريحات الرنانة حول احترام حرية التعبير، وليست بطولة كأس العالم 2022 في قطر عنا ببعيد، ونتذكر الصورة الشهيرة للاعبي المنتخب الألماني واضعي أكف أيديهم على أفواههم في إشارة إلى "كبت حرية التعبير" عندما قامت الحكومة القطرية بمنع أعلام المثليين في المونديال.

لازلت أتذكر دفاع الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون عن صحيفة شارلي إبدو الفرنسية التي نشرت رسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام متذرعا بـ "بحرية التعبير وحرية الصحافة"، وماكرون نفسه أبدى استيائه إزاء نشر السفارة الروسية في باريس على حسابها بـ "تويتر"، كاريكاتيراً ساخراً حول السياسية الفرنسية والأمريكية تجاه أوروبا، وهنا ذكرته المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بتصريحه حول ضرورة احترام "حرية التعبير".

"الشمس لا تغطى بغربال"، ومهما حاول بعض الساسة الأوروبيين طمس تطرفهم، لابد للحظة ما أن يظهر، وها هو ظهر أمام السفارة التركية، في معرض الضغط على أنقرة للموافقة على طلب السويد بالانضمام إلى حلف الناتو. وحتى بعد مضي قرون على الشواهد التاريخية التي سردناها سلفا، يبدو أن الأصولية لم تغادر أوروبا.