ساهمت الحضارات البشرية على مر التاريخ في التراكم المعرفي الذي وصل إليه العالم اليوم، فكل حضارة تبني على ما توصلت إليه سابقتها؛ حيث أن المعرفة الإنسانية هي معرفة تراكمية بالأساس وكل مرحلة تخدم ما بعدها وتستند على ما قبلها، وشكل هذا التعاون محركا رئيسا انطلق منه الابتكار والتطور العلمي والتكنولوجي الحالي.
بيت الحكمة : المهد الأول لـ وادي السيليكون
وبحسب مقال منشور في The Conversation لـ “تيرهي نورميكو فولر” Terhi Nurmikko-Fuller، المحاضرة في العلوم الإنسانية الرقمية بالجامعة الوطنية الأسترالية ، فإن وادي السيليكون هو مرادفًا لهذه الفكرة؛ لكونه مركزا تكنولوجيا محوريا في عصرنا الحالي، ونتاجا لسلسلة طويلة من المؤسسات والمراكز التي مهدت الطريق قبله، وأحد هذه الأمثلة جاء من بغداد في العراق ، حيث العصر الذهبي الإسلامي في القرن - الرابع الهجري - العاشر الميلادي.
وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش ما يسمى بـ "العصور المظلمة"، كان بيت الحكمة هو مهد المراكز التكنولوجية والعلمية، والتي تطورت بدورها إلى أن أصبح وادي السيليكون امتدادا له، كونه يضم أهم وأفضل مطوري التكنولوجيا حاليا.
وشهد بيت الحكمة جمع العديد من الأعمال العظيمة من بلاد فارس، والصين، والهند واليونان، والتي تمت ترجمتها إلى العربية ، بما في ذلك أعمال أرسطو وإقليدس، وأدت هذه البيئة المتنوعة ثقافيًا ولغويًا إلى ظهور ابتكارات ساعدت في أن يكون لها إرث دائم في مجالات تشمل الجبر، والجغرافيا، وعلم الفلك، والطب، والهندسة.
بنو موسى وصناعة الروبوت
وفقا لـ "فولر" فإن بيت الحكمة كان مركزا علميا رئيسيا في فترة امتدت لثلاثة قرون ونصف ، وضم عددا من المفكرين متعددي المواهب، كان من بينهم الإخوة “بنو موسى” وهم ثلاثة علماء فارسيين من القرن التاسع عاشوا في بغداد.
وشكل الإخوان فريقًا متعدد التخصصات، أحدهما عالم رياضيات، والثاني عالم فلك، والآخر مهندس، وقاموا بترجمة أعمال من لغات أخرى إلى العربية ، كما عملوا على رعاية مترجمين آخرين واستثمروا الأموال في شراء المخطوطات النادرة، كما شاركوا أيضًا في السياسة وتطوير البنية التحتية الحضرية ، كما شملت مواهبهم الموسيقى أيضا.
ويمكن القول إن أكثر المساهمات الملموسة لـ بنو موسى كانت في ابتكار الآلات، حيث أن أحد أعمالهم المنشورة في عام 850 م ، كان كتابا عن الآلات والأجهزة ، وهو : كتاب الحيل الذي قدم وصفا دقيقا للآلات، ومهد لاحقا لما يعرف بـ “الروبوتات” الحديثة.
تضمنت هذه الآلات : آلات موسيقية، وأخرى ميكانيكية بالإضافة إلى عازف ناي آلي يعمل بالبخار، وهي آلة اعتبرها البروفيسور بجامعة فريجي بأمستردام، تون كوتسير Teun Koetsier، بأنها أول آلة موسيقية ميكانيكية قابلة للبرمجة في العالم.
محمد بن موسى الخوارزمي
عالم آخر من بيت الحكمة في ذلك الوقت، هو محمد بن موسى الخوارزمي ، الذي ألهم اسمه مصطلح "الخوارزمية"، كما أن إرثه المتميز جعل اصطلاح "علم الجبر" مشتقا أيضًا من عنوان أحد كتبه، وهو: كتاب الجبر و المقابلة، والذي يتم اعتباره ضمن المنشورات الأولى في العالم لقواعد الجبر، هذا بالإضافة إلى إسهاماته المهمة في الجغرافيا وعلم الفلك.
الكندي وتحليل الشفرات
تعاون الخوارزمي بشكل وثيق مع الكندي ، المعروف أيضًا باسمه اللاتيني “Alkindus” ، وكان الكندي عالما موسوعيًا من مواطني الإمبراطورية العباسية، التي امتدت من باكستان حاليا إلى تونس، ومن البحر الأسود إلى المحيط الهندي.
كان الكندي عالما في الرياضيات، ودرس تحليل الشفرات بشكله الأولي، ورائدًا في نظرية الموسيقى - دراسة ممارسات وإمكانيات الموسيقى - وجمع أيضا بين الفلسفة الأرسطية واللاهوت الإسلامي.
يعود الفضل للكندي في تقديم الأرقام الهندية لأقرانه في العالم العربي جنبا إلى جنب مع الخوارزمي ، حيث طور الأرقام العربية التي نستخدمها اليوم من 0 إلى 9.
وقام الكندي بتأليف أقدم كتاب معروف عن تحليل الشفرات ، ومن المعروف أيضا أنه استخدم الاستدلال الإحصائي، وهو نوع من تحليل البيانات، والذي يصفه الإحصائي لايل بروميلينج Lyle Broemeling ، بأنه أحد أقدم الأمثلة المعروفة لكلتا الطريقتين.
غيرة بنو موسى تنهي مسيرته
استطاع الكندي أن يؤسس مكتبة عظيمة من كتبه المختلفة في مجالات عدة، إلا أن غيرة بنو موسى كانت تقف بالمرصاد لتقدمه لأكثر من ذلك، حيث يبدو أن الأخوة تآمروا عليه، وقاموا ضربه وطرده من بيت الحكمة ، ومصادرة مكتبته واجباره على تسليمها لهم.
بيت الحكمة بين سقوط بغداد وضياع علومه وتشكيك العلماء
وبعد قرون من الإسهام الفكري الكبير والتطور التقني لصالح البشرية ، دمر المغول بيت الحكمة أثناء حصار بغداد عام 1258، ولم يتركوا أثرا.
هذا الغياب للأدلة الأثرية دفع بعض العلماء إلى الشك في وجودها ، أو الإشارة إلى أنها موجودة، ولكن أثرها يتوقف على كونها حالة ذهنية لا أكثر.
وفي كتابه "الفكر اليوناني والثقافة العربية"، يقترح ديميتري جوتاس أن بيت الحكمة يمكن - في أحسن الأحوال- أن يكون رومانسيًا باعتباره "أرشيفًا وطنيًا مثاليًا"، لكن هذا الرأي يعترض عليه خبير الدراسات الإسلامية حسين كمالي في مراجعته للمجلد.
ومع ذلك ، حتى جوتاس نفسه يوافق على أنه في الفترة ما بين 800 و 1000 ميلادية كانت هناك حركة ترجمة واسعة النطاق في الشرق الأوسط أدت إلى ترجمة شاملة ومنهجية للأعمال اليونانية غير الأدبية إلى العربية، وكان المترجمون حينها يحظون بتقدير كبير ، وتم منح المكانة الاجتماعية ليس فقط لهم ، ولكن أيضًا للنخبة التي ساعدت في تمويل أنشطتهم.
ويلخص عالم الفيزياء النظرية جيم الخليلي في كتابه Pathfinders: “كانت هنا بالفعل مؤسسة تُعرف باسم بيت الحكمة، توسعت بشكل كبير في نطاقها من مجرد كونها مكتبة للقصر الملكي، حيث أصبحت مركزًا للبحث العلمي الأصيل".
الفرق بين بيت الحكمة ووادي السيليكون وفرص استحداثه
تقول فولر إنه ربما لا نعرف الكثير عن بيت الحكمة ، ولكن ما يبدو واضحًا أن بيت الحكمة كان مدفوعًا بتقدير كبير لأفكار عظيمة، والتي يمكن أن تظهر في بيئة ديناميكية متعددة التخصصات، وفي هذا الصدد ، يبدو أقل شبهاً بوادي السيليكون ، الذي أظهر أنه يركز بشكل مباشر على المكاسب التجارية ومعروف أيضا بجذب سلوك عديم الضمير.
وعند الفحص الدقيق ، يبدو بيت الحكمة أشبه ببيئة تعاونية يمكن تحقيقها في مراحل التعليم العالي، حيث كان أحد مفاتيح نجاحها هو الدعم المالي المستمر من الخلفاء المتعاقبين في العصر الإسلامي الذهبي.
تضيف “ فولر” أن أساليب جمع المعرفة في بيت الحكمة حظيتبالاحترام والمكافأة والتشجيع مما أدى إلى الاستقرار الاجتماعي والازدهار.
وتتسائل الباحثة عن ما الذي يتطلبه الأمر لاستحداث بيئة مثل بيئة بيت الحكمة في وقتنا الحالي، وإعادة تقييم الطريقة التي تدار بها الجامعات والدراسات العليا وطريقة تمويلها، والحكم عليها، وكيفية تدريسها؟.
وتستطرد “هل الاختلاف المنهجي والشروط التي تتطلبها العلوم الطبيعية والإنسانية والتي تضعها دائما في حالة تناقض هو ما يعيق الابتكار؟” ، فبالنسبة للعلماء في بغداد في القرن الرابع الإسلامي ، كانت هذه المساعي متقابلة ولكنهما وجهان لعملة واحدة!.