على مدار العام الماضي 2022، عمدت بنوك مركزية عدة في أنحاء العالم إلى مراكمة كميات كبيرة من الذهب كجزء من احتياطياتها النقدية، وتنافست البنوك المركزية على الاستحواذ على الذهب بوتيرة غير مسبوقة منذ عام 1967.
الدولار والذهب .. لعبة بريتون وودز وصدمة نيكسون
وبحسب مجلة "فورتشن"، كان الذهب احتياطي عالي القيمة منذ توقيع اتفاقية بريتون وودز عام 1944، التي التزمت بموجبها الولايات المتحدة بربط الدولار بالذهب بسعر 35 دولارًا للأوقية، وبحيث تستطيع أي دولة شراء الدولار من الولايات المتحدة مقابل الذهب بهذا السعر أو استرداد الذهب مقابل الدولار في أي وقت.
وظل العمل باتفاقية بريتون وودز ساريًا حتى عام 1971، عندما فاجأ الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون العالم بـ "صدمة نيكسون" الشهيرة، معلنًا فك الارتباط بين الدولار والذهب.
وفي عام 1967، بينما كانت اتفاقية بريتون وودز لا تزال سارية، بلغ التنافس بين البنوك المركزية حول العالم على مراكمة الذهب ذروته، وخلال ذلك العام وحده اشترت البنوك المركزية حول العالم 1404 أطنان من الذهب، ولكن بعد صدمة نيكسون وإنهاء العمل بقاعدة الذهب كغطاء للدولار فقد الذهب بعض قيمته وتراجعت حمى تكديسه لدى البنوك المركزية.
الذهب دواء البنوك المركزية
ولسبب ما، عادت البنوك المركزية إلى الإقبال بقوة على شراء الذهب العام الماضي، فاشترت خلال الأشهر التسعة الأولى منه 673 طنًا، وبلغت احتياطيات الذهب لدى البنوك المركزية 36 ألفًا و782 طنًا، وهو أعلى مستوى لها منذ عام 1974.
الغريب في الأمر أن تدافع البنوك المركزية لمراكمة احتياطيات كبيرة من الذهب العام الماضي كان متزامنًا مع صعود كبير في قيمة الدولار أمام العملات الأخرى، نتيجة قرارات الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) المتتالية رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، وكان الطبيعي أن تهتم البنوك المركزية أكثر بزيادة احتياطياتها من الدولار وسندات الخزانة الأمريكية المقومة بالدولار.
ولكن بحلول سبتمبر 2022 كان مؤشر الدولار (الذي يقيس قيمة الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية) قد ارتفع إلى أعلى مستوى له خلال 20 عامًا، وكانت البنوك المركزية في أنحاء العالم قد راكمت احتياطيات من الذهب بأعلى وتيرة منذ 1967.
وتساءلت مجلة "فورتشن": ما الذي دفع البنوك المركزية في أنحاء العالم إلى شراء الذهب بينما كانت قيمة الدولار في ارتفاع مستمر؟ هل يؤشر ذلك إلى فقدان السلطات النقدية في كثير من دول العالم ثقتها في الدولار، أم أن هناك سر ما آخر دفع البنوك المركزية إلى شراء الذهب؟
البنك المركزي المصري يراكم احتياطيات كبيرة من الذهب
لقد تضاءلت الاحتياطيات النقدية للبنوك المركزية حول العالم مع ارتفاع الفوائد على الودائع والسندات في الولايات المتحدة، وخروج مبالغ ضخمة بالدولار من دول العالم للاستثمار في أدوات الدين الأمريكية، وفي ظل ظروف كتلك يشي إقبال البنوك المركزية على شراء الذهب بثقة السلطات النقدية حول العالم في المعدن الأصفر في أوقات الأزمات الجيوسياسية.
وبالتزامن مع ارتفاع أسعار الدولار نتيجة قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى أزمة مستفحلة في سلاسل التوريد، دفعت بأسعار الكثير من السلع إلى الارتفاع بدورها، الأمر الذي أوقع الدول المعتمدة على الاستيراد بكثافة في مأزق مزدوج؛ فمن ناحية ارتفعت أسعار السلع المستوردة، ومن ناحية أخرى أصبحت البنوك المركزية تجد صعوبة في توفير الاحتياطيات الدولارية اللازمة للدفع مقابل الواردات.
وفي صراع القوى الكبرى بين المعسكرين الروسي والغربي، تستخدم روسيا وحلفاؤها الموارد والسلع التي ينتجونها لتعظيم نفوذهم في الأسواق العالمية، فيما تستخدم الولايات المتحدة وحلفاؤها رفع أسعار الفائدة كسلاح لكبح الطلب على سلع المعسكر الروسي.
الجدير بالملاحظة هنا أن الدول التي عمدت إلى مراكمة كيات كبيرة من احتياطيات الذهب هي الدول التي تعتمد على روسيا لتوفير سلع أساسية مثل القمح والوقود وموارد طبيعية أخرى.
وعلى سبيل المثال تصدر البنك المركزي التركي قائمة البنوك المركزية المشترية للذهب خلال عام 2022، حيث اشترى 103 أطنان منه حتى شهر أكتوبر الماضي، أما البنك المركزي المصري فقد اشترى 44 طنًا من الذهب خلال الربع الأول (يناير - مارس) من 2022، وهي أكبر كمية من الذهب اشتراها بنك مركزي خلال الربع المذكور على مستوى العالم، ومن المعروف أن مصر وتركيا هما أكبر مشتريين للقمح الروسي.
وخلصت مجلة "فورتشن" إلى أنه طالما ظلت السلع وأسعار الفائدة أسلحة في الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة، فمن غير المرجح أن يفقد الذهب قيمته قريبا، وهو ما يُعد مكسبًا للدول التي راكمت احتياطيات كبيرة منه.