يقبل العالم على عام جديد ولا تزال الحرب الجارية في أوكرانيا تغطي بظلالها أرجاء العالم بداية من الدول الكبرى وصولا إلى الدول النامية والفقيرة، فمنذ أن أطلقت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة على الأراضي الأوكرانية في 24 فبراير الماضي، تخوض موسكو والدول الغربية حرب تكسير عظام، ليس من الواضح أنها ستسفر عن خروج منتصر.
وقبل أن نتناول جوانب الحرب وتداعياتها، ينبغي في البداية معرفة الأسباب الكامنة وراء الحرب وسبب اندلاعها، تلك الحرب بدأت شرارتها فعليا في العام 2014 بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني السابق الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش.
أحداث ميدان الاستقلال هروب يانوكوفيتش إلى روسيا
في العام 2013 خرجت احتجاجات عفوية في العاصمة الأوكرانية كييف بعد أن علقت الحكومة التحضيرات لتوقيع اتفاقية الشراكة واتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي. نتيجة لذلك، طالب المتظاهرون باستقالة الحكومة الحالية، وعزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، كما طالبوا بانتخابات مبكرة.
حاولت الحكومة في البداية قمع التظاهرات والتصدي لها، إلا أن الأوضاع تصاعدت بشكل لا يمكن السيطرة عليه بعدما وصل عدد المتظاهرين في كييف نحو أكثر من نصف مليون متظاهر بحلول يوم 1 ديسمبر 2013.
وفي 15 ديسمبر، علق الاتحاد الأوروبي العمل المتعلق باتفاقية التجارة مع أوكرانيا. علل مفوض شؤون توسيع الاتحاد هذا الإجراء بعدم استجابة الطرف الأوكراني لشروط الاتحاد التي تخص مباحثات اتفاق التجارة، ما أثار غضب المتظاهرين إلى حد شكّل خطرا على حياة يانوكوفيتش الذي هرب إلى روسيا.
شرارة الحرب.. ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا
وبعد هروب يانوكوفيتش إلى روسيا، قرر البرلمان تجريده من منصبه وإجراء انتخابات مبكرة، وهو ما اعتبرته روسيا انقلابا على الشرعية، واجتاحت بقواتها شبه جزيرة القرم التي بسطت سيطرتها عليها عبر إجراء استفتاء للانضمام إلى أراضيها في عام 2014.
ويمكن من هنا أن نعتبر عملية ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، الشرارة الأولى لاندلاع الحرب في أوكرانيا، موسكو التي تعتبر شبه جزيرة القرم جزءا لا يتجزأ من أراضيها منذ عهد الاتحاد السوفيتي، لا تقبل أن تنتقل أوكرانيا إلى المعسكر الغربي، لا سيما وأن هذا البلد تربطه علاقات ثقافية وتاريخية مع جارته الكبيرة روسيا، فعلى حدود أوكرانيا الشرقية، نجد إقليم دونباس الذي يتحدث أغلب سكانه اللغة الروسية، حيث دعمت موسكو النزعات الانفصالية في الإقليم وتمكنت من الإقليم إلى أراضيها لاحقا.
وأخذت العلاقات بين موسكو وكييف في التدهور مع تولي الرئيس الأوكراني السابق، بيتر بوروشينكو الحكم، ومن بعده فلاديمير زيلينسكي، حيث طمح هذان الزعيمان إلى الانضمام لحلف الناتو، وهو ما تراه موسكو تهديدا وجوديا لها، واعتبرت أن نقل آليات حلف الناتو إلى أوكرانيا على حدود روسيا، سيتسبب في اندلاع حرب عالمية ثالثة.
24 فبراير.. ليلة الاجتياح والوصول إلى مشارف كييف
باغتت روسيا القوات الأوكرانية فجرا، أثناء اجتماع مجلس الأمن الدولي لمناقشة الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، حيث وصلت القوات الروسية في أقل من 24 ساعة إلى مشارف العاصمة الأوكرانية كييف ثم انسحبت منها بعد تنديدات دولية واسعة النطاق بالغزو.
ومع انسحاب روسيا من كييف، بدأت القيادة الأوكرانية بالتعاون مع الشعب في إعادة صفوف الجيش ومقاومة القوات الروسية، حيث تمكنت القوات الأوكرانية بدعم من الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، من إظهار صمود قوي أمام القوات الروسية وطردها من عدة مدن.
ومنذ ذلك الحين، تقدم الدول الغربية الأسلحة والأموال إلى أوكرانيا التي تحاول استعادة أراضيها التي سيطرت عليها روسيا منذ 24 فبراير، بينما تحاول موسكو الحفاظ على ما تلك الأراضي التي أعلنت ضمها وهي مقاطعات دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزابوروجيا.
كيف أثرت الحرب على النظام العالمي؟
منذ بداية الحرب، أعلنت روسيا صراحة أنها تريد تغيير النظام العالمي الحالي من نظام القطب الواحد، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، إلى النظام متعدد الأقطاب، وهو ما تعتبره واشنطن وحلفاؤها في أوروبا تهديدا لها.
على الجانب الآخر، تدعم دول مثل الصين وإيران روسيا في محاولاتها لتغيير النظام العالمي الحالي، ولكن بشكل لا يجعلهم يتورطون بشكل مباشر في الحرب الجارية بأوكرانيا
موقف الدول العربية
أظهرت الدول العربية موقفا مسؤولا ومتناسقا من الحرب في أوكرانيا، فوقفت على الحياد ولم ترضخ للضغوطات الغربية لاتخاذ أي جانب ضد الآخر، فنجد أن أغلب الدول العربية صوتت على قرار إدانة العملية الروسية على أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بحكم رفضها استخدام القوة العسكرية لحل الأزمات، وفي نفس الوقت امتنع أغلب الدول العربية عن التصويت قرار استبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
كما تمكنت دول مثل السعودية والإمارات، من بذل جهود وساطة لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما يعد نجاحا على الصعيد الدبلوماسي للرياض وأبوظبي بحكم ثقلهما في المنطقة.
كيف أحدثت الحرب شرخا في أوروبا؟
لم يكن في مخيلة الدول الغربية، أن الحرب في شكلها التقليدي يمكن أن تعود مجددا إلى القارة العجوز، فالحرب الأوكرانية هي أول حرب برية موسعة شهدتها القارة منذ الحرب العالمية الثانية.
وفرض الاتحاد الأوروبي حتى يومنا هذا 9 حزمات من العقوبات على روسيا، تسببت في إحداث شرخ كبير في وحدة الاتحاد الأوروبي وهددت بقاءه، وفي الوقت ذاته تسببت العقوبات في هزة قوية طالت الاقتصاد العالمي.
استهدفت العقوبات الأوروبية قطاع الطاقة الروسي رغم أن موسكو هي المورد الرئيسي للغاز للدول الأوروبية بنسبة تصل إلى 40%، فخفضت روسيا إمدادات الغاز المخصص لأوروبا، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الكهرباء والطاقة في الدول الأوروبية بشكل غير مسبوق، في وقت كانت فيه السوق تعاني من شح الإمدادات بالفعل.
ولجأت بعض الدول الغربية إلى تقنين الكهرباء بهدف توفير الطاقة بسبب تخليها عن الغاز الروسي طواعية، وهو ما أثار سخط تيارات اليمين المتطرف، التي نجح بعضها في الوصول إلى الحكم لا سيما خلال فترة الحرب، مثل صعود رئيسة الوزراء الإيطالية الحالية، جورجيا ميلوني، ورئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، إلى السلطة.
وتطرقت العقوبات الأوروبية إلى قطاعات أخرى، مثل قطاع الدفاع، والصناعة والتعدين، وحتى الزراعة والمنتجات الغذائية، كما منعت الدول الغربية شركات الطيران الروسية من استخدام أجوائها ومنعت سفن النقل الروسية من استخدام موانئها، وهو ما أحدث ضررا كبيرا في سلاسل الإمداد.
تسببت الحرب في تدمير سلاسل الإمداد العالمية، فمع فرض الدول الغربية عقوبات على روسيا، التي تعد من أكبر مصدري الحبوب في العالم إلى جانب أوكرانيا، بات من الصعب على الدول النامية في أفريقيا والشرق الأوسط، الحصول على الحبوب التي كانت تستوردها من روسيا وأوكرانيا.
كما أحدثت العقوبات ضد روسيا هزة في سوق العملة على مستوى العالم، وغرقت العديد من الدول في موجات من التضخم بدءا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وصولا إلى دول أفريقيا والشرق الأوسط.
وإذا نظرنا إلى ما هو أبعد من المعاناة والأزمة الإنسانية الناجمة عن العملية الروسية على أوكرانيا، لوجدنا أن الاقتصاد العالمي بأكمله سيشعر بآثار تباطؤ النمو وزيادة سرعة التضخم.
وسوف تتدفق هذه الآثار من خلال ثلاث قنوات رئيسية. أولا، ارتفاع أسعار السلع الأولية كالغذاء والطاقة سيدفع التضخم نحو مزيد من الارتفاع، مما يؤدي بدوره إلى تآكل قيمة الدخول وإضعاف الطلب. وثانيا، الاقتصادات المجاورة بصفة خاصة سوف تصارع الانقطاعات في التجارة وسلاسل الإمداد وتحويلات العاملين في الخارج كما ستشهد طفرة تاريخية في تدفقات اللاجئين. وثالثا، تراجع ثقة مجتمع الأعمال وزيادة شعور المستثمرين بعدم اليقين سيفضيان إلى إضعاف أسعار الأصول، وتشديد الأوضاع المالية، وربما الحفز على خروج التدفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة.
وبما أن روسيا وأوكرانيا من أكبر البلدان المنتجة للسلع الأولية، فقد أدت انقطاعات سلاسل الإمداد إلى ارتفاع الأسعار العالمية بصورة حادة، ولا سيما أسعار النفط والغاز الطبيعي. وشهدت تكاليف الغذاء قفزة في ظل المستوى التاريخي الذي بلغه سعر القمح، حيث تسهم كل من أوكرانيا وروسيا بنسبة 30% من صادرات القمح العالمية.
ومن شأن زيادة حدة ارتفاع أسعار الغذاء والوقود أن تدفع إلى مخاطر أكبر من حدوث قلاقل في بعض المناطق، من إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية إلى القوقاز وآسيا الوسطى، بينما من المرجح زيادة انعدام الأمن الغذائي في بعض أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط.
هل العالم مقبل على حرب عالمية ثالثة؟
منذ أن بدأت الحرب ومذيعي المحطات التلفزيونية الروسية والكتاب يقولون إن روسيا تخوض صراعا عالميا وجوديا، والوصف الذي كان قد يُعتبر مبالغة كبيرة منذ بداية الحرب، بينما هو الآن وجهة نظر لها وجاهتها خارج روسيا أيضا.
ويقول بيتر فرانكوبان، الأستاذ في جامعة أوكسفورد، في صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية، إن الآثار الزلزالية للحرب يمكن رؤيتها في كل مكان، ، حيث أن الجنود الروس اعتقدوا أنهم سيدخلون كييف في غضون أيام، في أعقاب الإعلان عن "العملية العسكرية الخاصة" في الرابع والعشرين من فبراير، ولكن الحرب تحولت لما نراه الآن
ويمضي الكاتب في القول، حين سُئلت فيونا هيل، كبيرة مديري الشؤون الأوروبية والروسية في مجلس الأمن القومي الأمريكي حتى وقت قريب، الأسبوع الماضي إذا ما كان القول إن قيام حرب عالمية جديدة احتمال بعيد.
لكن ما حدث في الفترة الماضية كان له بالفعل عواقب زلزالية - ستزداد موجاتها الصدمية أقوى وأكثر خطورة خلال الصيف بالنسبة لأولئك الذين يعيشون بعيدًا عن الخطوط الأمامية وبعيدًا عن أوكرانيا نفسها.، فإنها أجابت بصورة مباشرة قائلة: "نحن بالفعل في هذه الحرب، ونحن فيها منذ بعض الوقت ".