20 % من الشعب الروسي ينتمي إلى أصول عرقية غير روسية
روسيا تتأرجح تاريخيا بين السيطرة على القوميات ومنحها حقوق حكم ذاتي
الخلافات الثقافية وتفاوت التنمية يفجر توترًا مكتوما بين موسكو وشعوب الجمهوريات الروسية
الحرب في أوكرانيا لن تؤدي إلى تفكك روسيا ولكنها ستشكل ضغطا للاتجاه إلى اللامركزية
في وقت يصعد فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من وتيرة الحرب على أوكرانيا، تتضارب التكهنات حول حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي في روسيا، ويأمل آخرون في تفكك وانهيار الدولة الروسية بأكملها.
وحسبما ذكر تقرير لمجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، فإن تساؤلًا مهمًا عن احتمالات حدوث انشقاق داخل روسيا يلوح في الأفق، وبالنظر إلى دولة مترامية الأطراف تمتد عبر 11 منطقة زمنية وتعد أكبر دول العالم مساحة، وينتمي 20% من شعبها إلى أصول عرقية غير روسية، فإنه يمكن اعتبار الجغرافيا التي طالما شكلت تاريخ روسيا أحد عوامل تفككها المحتمل.
وفي انعكاس لحجم التناقض الناجم عن اتساع مساحة روسيا، صُنفت العاصمة موسكو كثالث أكثر مدن العالم ازدهارا قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي، في حين أن شبه القارة السيبيرية فقيرة الموارد وغير مأهولة بالسكان بسبب طقسها قارس البرودة طوال العام، وبينما تتركز المدن الصناعية في في أقصى الشمال، يرتبط أقصى الشرق اقصاديا بالصين واليابان وكوريا الجنوبية أكثر من ارتباطه بموسكو وسان بطرسبرج، وقد عمق تركز السلطة في موسكو في عهد بوتين وتقليص الاستقلال السياسي والثقافي في بقية المقاطعات الفجوة بين الأقاليم الروسية.
ومن جانبه لم يكتف الغرب بالتكهن بشأن انهيار روسيا فحسب، بل حرض مسئولوه عليه بوضوح ورأوا فيه نهاية الأزمات الدولية التي "تفتعلها" موسكو حسب رأيهم، رغم أن تفكك الدولة الروسية لن يحل مشكلات الغرب، بل يتطلب استقرار العالم أن تسالم روسيا جيرانها بما فيهم أوكرانيا، ويمكن أن يكون الإصلاح الداخلي للنظام الفيدرالي الروسي بدلا من انهياره الكامل، كافيا لتعزيز الاستقرار العالمي.
ويزخر تاريخ روسيا بالقادة الذين استخدموا سياسة العصا والجزرة للحفاظ على وحدة أراضيها ذات المساحة الشاسعة، وإخضاع المناطق النائية فيها للسلطة المركزية، وقد منح أباطرة الحقبة القيصرية نوعا من الحكم الذاتي لبعض الأقاليم بينما سيطروا على البعض الآخر بالقوة، كما اتبع النظام السوفيتي نفس السياسة، حيث جمع بين إظهار الاحترام للتوجه القومي من جانب والتنكيل بالشعوب المعارضة للمشروع السوفيتي من جانب آخر.
وتأرجحت روسيا تاريخيا بين اشتداد قبضة السلطة المركزية واشتعال المقاومة ضدها، وخلال القرن العشرين ضعفت المركزية فيها نسبيا في أثناء فترتين، وهما: فترة تولي نيكيتا خروشوف منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم بين عامي 1953 و1964، والفترة ما بين حقبة البيريسترويكا (الإصلاح) ونهاية حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين أي بين عامي 1985 و1999.
ويميل بوتين منذ توليه السلطة عام 2000 وحتى الآن إلى تعزيز سيطرة موسكو على المناطق والجمهوريات المنضوية تحت حكمها، وهو ما عمق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين سكان الحواضر الغنية وسكان الأطراف الفقيرة، وأدى لتفجر التوترات من حين إلى آخر، حيث تستأثر موسكو وضواحيها بنصيب الأسد من ميزانية الدولة، بينما تتكبد سيبيريا أكثر من نصيبها العادل من الأعباء الاقتصادية مقابل الخدمات التي تتمتع بها، وبشكل عام فقدت المناطق النائية استقلالها المالي لصالح تعاظم قوة موسكو، مما أدى إلى تدهور التنمية الإقليمية، ولم تسلم موسكو وقادتها البيروقراطيين من انتقادات حكام الأقاليم بمن فيهم أولئك الموالين لبوتين، لفرضهم سياسات مجحفة ومنفصلة عن الواقع بحق سكانها.
وتوضح خريطة روسيا العرقية مدى تعقيد الأمر، حيث لا تشكل الجمهوريات العرقية الـ 21 المتمتعة بالحكم الذاتي كلاً موحداً، وفي حين يشكل العرق الروسي أغلبية ساحقة تصل إلى الثلثين في بعضها مثل جمهورية بورياتيا السيبيرية، يندر وجودهم في مناطق أخرى مثل داغستان في الجنوب الروسي، وهم يعانون مظالم اقتصادية مثل بقية المناطق النائية (باستثناء جمهورية تتارستان الصناعية).
وهناك أيضًا مشكلة ثقافية مكتومة في الجمهوريات الروسية، حيث يشكو سكانها من هيمنة اللغة الروسية على لغاتهم المحلية المتنوعة، وقد دعا بعض النشطاء المحليين في عدد من هذه الجمهوريات إلى إلغاء الخطاب الاحتفالي باندماج بلادهم السلمي في الإمبراطورية الروسية من مناهج التاريخ الدراسية، كما طالب سكان القطب الشمالي بإيقاف استغلال شركات استخراج النفط لما يعتبرون أنها كانت يوما أراضيهم.
ويتوقع مراقبون أن تعلي الحرب في أوكرانيا من نبرة الاستقلال الذاتي عن موسكو، وقد فجر قرار التعبئة الجزئية في سبتمبر الماضي حالة من الغضب في صفوف الأقليات العرقية التي ارتفع معدل الإصابات بين أبنائها، ما دفع الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، وهو من أخلص أتباع بوتين، إلى وقف التعبئة في بلاده وكذا فعل قادة مناطق أخرى مثل داغستان.
ويرجح أن تؤدي التغيرات الديموغرافية إلى تعالي الأصوات المطالبة بتطبيق اللامركزية في 20 منطقة روسية ذات نمو سكاني مطرد، يشكل ذوو الأصول غير الروسية أغلبية السكان في 19 منطقة منها، خاصة داغستان والشيشان في شمال القوقاز وتوفا في سيبيريا,
ورغم معاناتها، لا يطالب أبناء الأقليات العرقية في روسيا بالانفصال، بل تظهر استطلاعات الرأي تمسكهم بالمواطنة الروسية، لكن يمكن القول إنهم على استعداد للانخراط في حركة للمطالبة بالاستقلال حال توفر الظروف المواتية لتحقيق ذلك، وإن كانت هناك توقعات بتفضيل أغلبيتهم البقاء تحت الحكم الروسي مقابل استقلال ثقافي وسياسي نسبي.
ورغم عدم وجود مؤشرات واضحة على هذا التحرك، إلا أن قادة الغرب يستعدون لاحتمال بدئه، وقد دعت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إلى إنهاء ما وصفته بـ "الاستعمار الروسي"، كما دعا الرئيس البولندي السابق ليش فاليسا إلى انفصال 60 شعبا يرزحون تحت ما اعتبره "احتلالًا روسيًا"، بحيث تصبح روسيا بلدا لا يتجاوز تعداد شعبه 50 مليون نسمة، وعقد مسئولو ما يعرف بعصبة الأمم الحرة وما يعرف بمنتدى شعوب روسيا الحرة اجتماعات للمطالبة بتحرير ما أسموه "الدول المسجونة"، وهو تعبير يعود للفترة القيصرية التي وصف المنشقون عن نظامها روسيا بـ "سجن الأمم"، وقد شكل المنفيون من الأقليات العرقية والمعارضين لروسيا أغلبية المشاركين في هذه الاجتماعات.
لكن لا ينبغي لصناع السياسة في الغرب الخلط بين دعوات المعارضين للنظام الروسي وبين آراء المواطنين الروس، أو افتراض أن المنشقين سيجعلون روسيا أكثر انسجاما مع المعايير الغربية إذا تولو حكمها، حيث لا تبدي الأقليات العرقية ميلا خاصا نحو قيم الديمقراطية والليبرالية الغربيتين أكثر مما تبديه الأغلبية الروسية، فالانقسام الثقافي في روسيا ليس بين الجانبين لكنه بين الحواضر الكبيرة وبقية البلاد، ففي حين تميل المدن الصناعية المتحضرة إلى احترام التعددية، تميل المناطق الريفية للقيم المحافظة ويتقبلون الحكم الاستبدادي.
وتدل الدعوات إلى تفكيك روسيا على افتقار مطلقيها إلى إدراك الصورة الكاملة عن المجتمع الروسي بكل تنوعاته، واعتقادهم الخاطئ أن انهيار الدولة الروسية لن تكون له تداعيات كارثية على السلم الدولي، وخاصة الاقتتال بين الدويلات الناشئة على ترسيم الحدود والثروات الاقتصادية، وإغفالهم رد الفعل العنيف للنخبة في موسكو وأجهزتها الأمنية التي تسيطر على القوة النووية تجاه أي دعوة انفصالية.
ولا يبدو أن حرب أوكرانيا ستؤدي إلى تفكك روسيا، لكنها تشكل ضغطا على النظام الروسي لتطبيق اللامركزية، أو في أفضل الأحوال إعادة تفعيل الحكم الذاتي الذي كان مكفولا في الدستور الروسي وألغاه بوتين، ويظهر الواقع أن أي تحول مجتمعي في روسيا سيستغرق وقتا كما هو الحال في أوروبا والولايات المتحدة، ويبقى الحل الأفضل هو الإصلاح النابع من الداخل الروسي لا المفروض من الخارج الغربي.