توفى الكاتب الصحفي محمد أبو الغيط اليوم، بعد صراع مع مرض السرطان الذي استمر معه لفترة طويلة في آخر سنوات حياته.
وتصدر الطبيب والكاتب الصحفي محمد أبو الغيط، محركات البحث في جوجل بعد أن أعلنت زوجته وفاته صباح اليوم الإثنين 5 ديسمبر 2022.
وكان أخر ما كتبته الكاتب الصحفي عبر صفحته الشخصية فيس بوك: "في كتابه "في الحب والحب العذري" خصص الكاتب السوري صادق جلال العظم فصلاً بعنوان "مفارقة الحب"، يناقش فيه أن الحب تتجاذبه دائماً "نزعة الاشتداد"، وذروتها المغامرة الغرامية، مقابل "نزعة الامتداد"، وذروتها مؤسسة الزواج.. الفارق بينهما كمفهومي "اللذة"، تلك الومضة الساحرة العنيفة، و"السرور"، ذلك الهاديء المعتدل.. اليوم بعد كل هذه السنوات أفهم تماماً الفارق بين نوعيّ الحب، كما أفهم أنه لا غنى عن تكوين المزيج الخاص منهما لنجاح كل علاقة.. لو كان الحب بشكل مستمر هو لحظة اللذة في همسة غزل، اندماج جسدين، وأمثالها، إذا لكانت الجنة على الدنيا، لصافحتنا الملائكة في منازلنا حقاَ!
لكننا في الواقع نهبط إلى تحديات وتعقيدات بلا حصر، بعضها لظروف خارج طرفيّ العلاقة، وهو ما يتطلب صفات وقدرات، وكذلك تخطيطا وتوفيقاً، فالمكون السماوي وحده لا يكفي بدون اجتهادنا الأرضي العمدي.. واليوم بعد كل هذه السنوات أعرف أننا كنا موفقين بأن أوقفنا علاقتنا على أساسين صلبين: الأساس الأول هو الشفافية والحديث معا مهما كانت النتائج، مهما اختلفنا، المهم ألا نترك علاقتنا في دائرة رد الفعل لأهوائنا أو لظروف خارجية.. وجدنا أن الأمر يستحق تنظيماً عمديا. بعد خلاف كبير وجدنا أننا فيه راكمنا مشكلة لم نتحدث عنها لأشهر، فاتفقنا أن نتحدث ١٥ دقيقة في اليوم عن علاقتنا ببنود محددة: هل ضايقتك اليوم؟ ما أفضل ما حدث مني اليوم؟ غالباً لم يحدث ذلك يوميا، لكننا على الأقل احتفظنا بهامش المحاولة والتذكير دائما".
وأضاف: "الأساس الثاني هو الفكرة الحاكمة لموقع كلانا من العلاقة، اتفقنا أن الأنسب لنا هو موقع "شريكيّ السكن".. لسنوات عشت في "شقق عُزاب". أمضيت عامي الأول الجامعي طالباً مغترباً بكلية طب المنيا حيث عشت مع ٣ زملاء من كليات مختلفة، وبعد التخرج كررت التجربة في القاهرة مع صديق واحد أو عدة أصدقاء.. هذه الحياة المشتركة دائما ما كانت تتطلب جانبا من توزيع المسؤوليات (ماذا سنأكل؟ من سيغسل ملابسنا أو سيذهب بها للغسيل؟ من سينظف المنزل؟)، أو إدارة الخلافات (لماذا حصل فلان على الوسادة الأفضل؟ لماذا لم يدفع فلان نصيبه من مقابل تنظيف سلم العمارة؟).. شهدت أنماطاً كثيرة لحلول توزيع المهام أو لحل الخلافات، ما يجمعها هو أن الأصل بيننا حسن النية، أننا أصدقاء أو على الأقل زملاء ورفاق سكن، أي بيننا "خواطر وعشم"، لدينا رصيد يسمح بالتفاهم بندية ومساواة وفي ذات الوقت بودٍ ولطف. إذا فقدنا تلك العناصر تنهار الرابطة، وسيغادر أحد الشباب الشقة باحثاً عن بديل.. واتفقت مع إسراء أننا لا يناسبنا نمط تشبيه الحياة الزوجية بأنها "سفينة لو ليها ريسين تغرق"، أو أنها "شركة ليها مدير"، وبالطبع مساحة من “ملزم” و”غير ملزم” تأتي من عوالم القضايا والخلافات لا المودة. بل نحن نبدأ حياة مشتركة لشخصين متماثلين تماماً في الاستقلال والكرامة والحقوق والواجبات، كالأصدقاء المتساكنين في منزل.. لو أننا في شقة طلبة وقرر أحدنا أن يحسم خلافنا حول مسؤولية النظافة بأنه هو رئيس المنزل بالطبيعة، لأنه "الأذكى"، أو "الأكبر سنا" أو أي معطى آخر، وعلى الباقين "الطاعة"، لما كان رد الباقين إلا طرد هذا المعتوه.. أما لو كانت له مزايا قوة فعلية، كونه مثلا أصبح يتحمل دفع الإيجار كاملاً في وقت عجز به الآخرون، فسيفرض سلطته فعلا. "سيطيعه" الباقون، لكنهم لن يكونوا سعداء، ولن تجمعهم لاحقاً نزهات ومغامرات الأصدقاء التلقائية.. واتفقت مع إسراء على أن تكون روح الأصدقاء المتشاركين هي الحاكم العميق لحياتنا، من أبسط التفاصيل إلى أكبرها.. على سبيل المثال اتفقنا أنها حين تخبرني أنها ذاهبة لزيارة منزل أهلها، فإني لا أشعر أني زوج رائع أنتظر العرفان لتنازلي عن حق "الإذن في خروجها"، كما أنها لا تشعر أنها حصلت مني على تنازل رهيب كون الأصل أنها أسيرة في منزلها! الأمر بسيط جدا، الأصدقاء يُعلمون بعضهم بأماكن تواجدهم ولا "يستأذنون" بعضهم. مجرد بديهية.. ورغم ذلك كم اكتشفنا لاحقاً صعوبة إزالة الرواسب الذكورية على كلانا.
خلال إحدى سهرات المرض بالمستشفى فاجئتني إسراء باعترافها أنها لم تتوقع أني سأحملها مسؤوليات متساوية فعلا، ظنت أنها محظوظة بمزايا كذا وكذا، ثم فوجئت أني أتعامل بشكل طبيعي وتلقائي مع هذه الأمور في مقابل تحميلها بنفس الطبيعية والتلقائية مسؤوليات تصنف عادة كمهام رجالية.لكنها فاجأتني وفاجأت نفسها.
كنا على المستوى النظري ناقشنا التحديات التي نتوقعها: الإدارة المالية، إدارة الأنشطة اليومية (طعام، نظافة)، حياتنا المهنية، الإنجاب، بل حتى إبقاء جذوة الحب مشتعلة بشكل واع هو تحد يتطلب عملا منظما كترتيب سفر أو نزهة دورية. لكن اليوم أعرف كم كانت مفاجآت الحياة عسيرة على التوقع، كما كانت قدرات إسراء دائما تبهرني بالجديد.
من أوائل صدمات المثال والواقع كان تحدي الإدارة المالية، أثناء الخطوبة أخبرتني أنها لا تحب شعور "اليد السُفلى"، أو أنها تنتظر من ينفق عليها. كانت تعمل بالفعل في موقع إخباري لكن بأجر زهيد، وبعد زواجنا حصلت على شهادة "مونتسوري" الخاصة بالتدريس لمرحلة رياض الأطفال، فالتحقت بمدرسة أيرلندية في المعادي.
من حيث الشكل اتفقنا على أن نضع أموالنا بشكل مشترك داخل درج مخصص في غرفتنا، ويسحب منها من يحتاج ما يشاء، وهو ما تطور لاحقاً عبر السنوات، فأصبحنا نتشارك أرقام الكروت البنكية، وكذلك وضعنا اسمينا بكافة العقود المتعلقة بمسكننا وبالفواتير.
لكن الأهم هو المضمون والشعور لا الشكل.
اتفقنا أن المهم هو أنه بكل ذرة في داخلنا نشعر أن هذا "مال الأسرة"، سواء كان مصدره أنا أو هي، فقد جاء هذا المال لأن الطرف الآخر يقدم مساهمة بقيمة "عمل غير مأجور". في حالتنا النموذج واضح: تركت إسراء عملها للتفرغ ليحيي لمدة ٤ سنوات كاملة، ما أثر في تراجعها المهني والمالي، بينما أنا أنمو وأتقدم. هذا حقها، لا مجاملة ولا مثالية، بل توصيف بحت.
أضعنا ساعات طويلة أيام الخطوبة في نقاشات كهذه، لكن تحدي الواقع كان مختلفاً تماما إلى حد مضحك: لا أموال لنقتسمها. أفلست منذ أيامي الأولى!
أنفقت بلا حساب في "أسبوع العسل" في الجونة، فكرت ببقايا الثقافة الذكورية أنه لا يصح أن أظهر أمامها عاجزا عن دفع ثمن مطعم غالٍ أو رحلة سافاري. نفد كل جنيه نملكه قبل خمسة أيام من نهاية الشهر، فلجأت للاقتراض من أحد أقاربي. صارحت إسراء كاتفاقنا على الشفافية المالية، ففوجئت بغضبها الشديد، وقالت إنها تفضل الجوع عن أن نبدأ حياتنا بالاستدانة.
كانت تلك المرة الأولى التي أرى وجهها الحازم. أحضرت ورقة وقلما وقالت: اكتب هنا كل مليم بيدخل لنا في الشهر. واجهتنا مشكلة أن بعض مصادر دخلي غير منتظمة. بعد بعض الحسابات وصلنا إلى أن الحد الأدنى الثابت من الدخل لدينا هوا كذا جنيه، إذن يجب ألا تزيد نفقاتنا عنه مطلقا، ثم قسمت بنود النفقات من مواصلات وطعام وفواتير بحيث يتفق الرقمان بالضبط.
لن نشتري الخضر من مكان عملي بالمعادي، بل قرب منزل الأسرة في حلوان أو من أمام مترو الملك الصالح.
لن آخذ أبداً سيارة أجرة إلى عملي بالدقي، بل سأستخدم خط مواصلات المترو والميكروباص.
كنت أنظر لتلك الفتاة القوية تولد، أسعد بها، لكني لا يمكنني منع نفسي من التساؤل: من أنتِ؟.