حذرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية من أن الدول الفقيرة ستواجهة أزمة ديون مدمرة خلال الأشهر القليلة المقبلة، مع ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي وقرارات الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) المتتالية برفع أسعار الفائدة، وما نتج عنها من ارتفاع سعر الدولار أمام العملات المحلية، ومن المتوقع أن تحدث هذه التطورات حالة من الاضطراب الاقتصادي في تلك الدول وزيادة معاناة شعوب العالم الأكثر احتياجا.
200 مليار دولار ديون الدول الفقيرة
وتظهر عملية حسابية بسيطة أن الدول الفقيرة مدينة للدول الغنية وبنوك التنمية والقطاع الخاص بأكثر من 200 مليار دولار، وسيصعب ارتفاع سعر صرف الدولار على هؤلاء المقترضين سداد ديونهم بالعملة الأمريكية.
وقالت "نيويورك تايمز" إن عجز الدول الفقيرة عن سداد ديونها سيرفع تكاليف الاقتراض بالنسبة للبلدان المعرضة للخطر، ويمكن أن يؤدي إلى أزمة مالية طاحنة بسبب تأثر ما يقرب من 100 مليون شخص هذا العام بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والتضخم والأضرار الاقتصادية الناتجة عن جائحة كورونا، وانزلاقهم إلى ما دون خط الفقر.
وتشكل هذه المعطيات تهديدا بمخاطر أخرى على الاقتصاد العالمي الذي يعاني حاليا من أزمة ركود، ويكافح قادة العالم المتقدم لتجنب حدوث أزمات مالية في دوله مثلما يحدث في الأسواق الناشئة مثل زامبيا وسريلانكا وغانا، من خلال وضع خطة لتخفيف الديون المتراكمة على الدول الغنية، التي تعاني من تعقيدات اقتصادية أخرى.
وبينما تواجه الدول الغنية أزمة ركود اقتصادي وتحاول التأقلم مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، ينخفض تدفق الاستثمارات إلى البلدان النامية، ولا يبدي كبار الدائنين وخاصة الصين المرونة الكافية لإعادة هيكلة ديون الدول الفقيرة، ومع ذلك لا يرجح أن يؤدي تخلف هذه الدول عن السداد إلى حدوث أزمة مالية عالمية بالنظر إلى ضآلة حجم اقتصاداتها، كما يعيد صانعو السياسات النظر في قدرتها على تحمل تكاليف الديون في وقت ترتفع فيه أسعار الفائدة بشكل كبير.
ويرجع توجه صانعي السياسات المالية العالمية وكبار الدائنين إلى تخفيف الضغط عن الدول الفقيرة، إلى تخوفهم من انعكاس تعثر الدول الفقيرة عن السداد على صعوبة تصدير بلدان كالولايات المتحدة لبضائعها إلى تلك الأسواق المثقلة بأعباء الديون، بالإضافة إلى مخاوف متعلقة بزيادة التباطؤ الاقتصادي العالمي وربما انتشار الجوع والاضطرابات الاجتماعية بشكل يهدد استقرار العالم.
وكان مدير البنك الدولي ديفيد مالباس قد قال خلال مشاركته في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في إندونيسيا الشهر الماضي، إن الدول النامية ترزح تحت ثقل أعباء ديون ضخمة، وإذا استمر هذا الوضع سيتفاقم التدهور الاقتصادي فيها بشكل ينذر بالخطر، ويهدد البلدان المتقدمة بزيادة تدفق الهجرة وفقدان الأسواق المستهلكة لبضائعها، حيث تسبب رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة إلى تعزيز قوة الدولار وبالتالي زيادة تكلفة استيراد السلع الأساسية على شعوب الدول النامية التي تعاني بالفعل من ارتفاع كبير في الأسعار.
إعادة هيكلة ديون الدول الفقيرة
وحذر خبراء اقتصاديون ومؤسسات مالية عالمية من خطورة الوضع، حيث تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن أكثر من 12 دولة قد تتخلف عن السداد العام المقبل، كما قدر صندوق النقد الدولي أن 60% من البلدان النامية منخفضة الدخل تعاني تراكم الديون وتتعرض لمخاطر كبيرة، كما أوضح مجلس العلاقات الخارجية الأسبوع الماضي أن 12 دولة نامية في أعلى تصنيفاتها كدول عاجزة عن السداد منذ عام ونصف العام.
ومن جانبه يرى الخبير الاقتصادي في مجلس العلاقات الخارجية براد ساتر أن الديون السيادية للأسواق الناشئة والبالغة 200 مليار دولار تحتاج إلى إعادة هيكلة، ويرجع سبب تخلف العديد من البلدان عن السداد إلى إقبالها الكبير على الاقتراض من الصين بين عامي 2012 و2020، ويشير إلى أن إعادة الهيكلة تشمل تمديد فترة السماح للسداد وخفض نسب الفوائد على الاقتراض والتنازل عن جزء من مبالغ القروض الأساسية.
وخلال عقد التسعينيات أطلقت الولايات المتحدة عدة مبادرات واسعة النطاق لتخفيف ديون دول أمريكا اللاتينية كان من أشهرها ما يعرف بخطة "برادي بوند"، إلا أن ظهور الدائنين الذين يمنحون قروضًا ضخمة بفوائد مرتفعة، ولا سيما في الصين، أدى إلى تعقيد جهود تخفيف عبء الديون عن تلك الدول.
ديون الدول الفقيرة.. اتهامات متبادلة بين الصين والمؤسسات المالية العالمية
وحذرت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في تقرير أصدرته الشهر الماضي من أن عدد كبير من الدول النامية معرض لخطر خفض التصنيف خلال العام المقبل، وأعربت عن أسفها من أن خطة تسهيل إعادة هيكلة ديونها لم تثبت فعاليتها في تسريع حل الأزمة، حيث سعت كل من زامبيا وتشاد فقط لتخفيف أعباء ديونهما وفقا لتلك الخطة، لذا يتعين على صندوق النقد والبنك الدوليين أن يتوصلا لاتفاق مشترك على كيفية إعادة هيكلة الديون المستحقة على الدول المدينة.
ورغم أن الصين التي تعد من أكبر الدائنين عالميا تشكل عائقا أمام جهود إغاثة الدول النامية، يلقي خبراء التنمية الاقتصادية باللائمة على الدول الفقيرة التي تلجأ إلى الاقتراض بصورة مبالغ فيها، متسببة في تفاقم الأزمة المالية العالمية بمجموع ديون تجاوز 500 مليار دولار، وقد حثت الولايات المتحدة الصين على أن تبدي استعدادا أكبر للتعاون في هذا الشأن من خلال ضبط شروطها للإقراض وإعادة تنسيق أعباء الديون.
ومن جانبها نفت الصين صحة الاتهامات الموجهة إليها من المؤسسات المالية العالمية وألقت باللوم عليها لإخفاقها في ابتكار حلول فعالة للأزمة، وعلى الجانب الآخر يشهد الاقتصاد الصيني حاليا تباطؤا ملحوظا بسبب سياساتها الصارمة في مجال مكافحة تفشي فيروس كورونا، كما عمقت أزمة العقارات المحلية من إمكانية قبولها لخسائر تخفيف أعباء الديون على الدول المقترضة منها، ومن المقرر أن يتوجه مسئولو صندوق النقد الدولي إلى بكين الأسبوع المقبل لحضور قمة 6+1 مع قادة المؤسسات الدولية الكبرى، وسيعملون على حث الصين على الانخراط في الجهود الدولية المشتركة لتسريع إعادة هيكلة ديون الدول النامية وإنقاذها من تداعيات التخلف عن السداد، تنفيذا لتوصيات البيان الختامي لقمة مجموعة العشرين الأخيرة.
وأعرب مالباس عن تفاؤله بشأن عدم تسبب أزمة ديون البلدان الفقيرة في أزمة عالمية مثلما حدث عندما عجزت دول أمريكا اللاتينية عن سداد ديونها خلال ثمانينيات القرن الماضي، وأكد أن الفرصة سانحة لمنع غرق الدول النامية في مزيد من الفقر والجوع ونقص الموارد، وأن هناك حاجة ملحة لوجود التزام أخلاقي بمد يد العون لها في وقت تحتاج فيه إلى تكاتف دولي لإنقاذها بشكل عاجل.